الإسلام .. وكرامة الفرد
الفرد هو اللبنة في بناء المجموع ، وهو عضو مؤسّس في العلاقات العامّة . فهل عرف الفرد الإنسانيّ ماله في دستور الإسلام من منزل عزيز كريم ؟
إنّ الكرامة التي يقررها الإسلام للشخصيّة الإنسانيّة . ليست كرامة مُفردة ولكنّها كرامة مثلّثة : كرامة هي عصمة وحماية . وكرامة هي عزّة وسيادة ، وكرامة هي استحقاق وجدارة ..
كرامة يستغلها الإنسان من طبيعته : {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ...}[الإسراء:70] . وكرامة تتغذى من عقيدته : {... وَللهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلمُؤْمِنِينَ ...}[المنافقون:8] . وكرامة يستوجبها بعمله وسيرته : {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ ...}[الأنعام:132] . {... وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ...}[هود:3] .
أوسع هذه الكرامات وأعمّها وأقدمها وأدومها ، تلك الكرامة الأولى ، التي ينالها الفرد منذ ولادته ، بل منذ تكوينه جنيناً في بطن أمه ... كرامة لم يؤدّ لها ثمناً ماديّاً ولا معنويّاً . ولكنّها منحة السماء ، التي منحته فطرته ، والتي جعلت كرامته وإنسانيّته صنوين مقترنين في شريعة الإسلام .
ما حقيقة تلك الكرامة ؟ إنّها قبل كلّ شيء سياج من الصيانة والحصانة . هي ظلّ ظليل . ينشره قانون الإسلام على كل فرد من البشر : ذكراً أو أنثى ، أبيض أو أسود ، ضعيفاً أو قويّاً ، فقيراً أو غنيّاً ، من أيّ ملة أو نحلة فرضت ..
ظلّ ظليل ، ينشره قانون الإسلام على كلّ فرد ، يصون به دمه أن يسفك ، وعرضه أن ينتهك ، وماله أن يغتصب ، ومسكنه أن يقتحم ، ونسبه أن يبدّل ، ووطنه أن يخرج منه أو يزاحم عليه ، وضميره أن يتحّكم به قسراً ، وتعطّل حريته خداعاً ومكراً ..
كلّ إنسان له في الإسلام قدسيّة الإنسان ، إنّه في حمى محميّ ، وفي حرم محرّم .. ولا يزال كذلك حتّى ينتهك هو حرمة نفسه ، وينزع بيده هذا الستر المضروب عليه ، بارتكاب جريمة ترفع عنه جانباً من تلك الحصانة ، وهو بعد ذلك بريء حتّى تثبت جريمته ، وهو بعد ثبوت جريمته لا يفقد حماية القانون كلّها ، لأنّ جنايته ستقدّر بقدرها ، ولأنّ عقوبته لن تجاوز حدّها ؟فإنّ نزعت عنه الحجاب الذي مزّقه هو ، فلن تنزع عنه الحجب الأخرى .
بهذه الكرامة يحمي الإسلام أعداءه ، كما يحمي أبناءه وأولياءه .. إنّه يحمي أعداءه في حياتهم ، ويحميهم بعد موتهم ، يحميهم في حياتهم ، فيحول دون قتالهم إلاّ إذا بدأوا بالعدوان . ويحميهم في ميدان القتال نفسه ، إذ يؤمّنهم من النهب والسلب والغدر والاغتيال . ثمّ يحميهم بعد موتهم ، إذ يحرم أجسادهم على كلّ تشويه أو تمثيل .. ولم لا ؟ أليسوا أناسىّ ؟ فلهم إذن كرامة الإنسان ..
هذه الكرامة التي كرّم الله بها الإنسانيّة في كلّ فرد من أفرادها ، هي الأساس الذي تقوم عليها العلاقات بين بني آدم .. هذه الكرامة التي جعلها الإسلام درعاً واقياً يدرأ بها عن الإنسانيّة نزوات الطغاة والجبارين ، هل أشعر الإسلام بها الضعفاء والمستضعفين ؟
إنّ الكرامة نفسها شيء والشعور بها شيء آخر . والشعور الحادّ القويّ شيء ثالث .. حسن جميل أن تقرّر الحقّ لأربابه ، وتوضح لهم معالمه .. ولكن أحسن وأجمل أن تمهّد لهم طريق حمايته ، وأن تجعل صورته في نفوسهم شعلة متّقدة تدفعهم للذبِّ عنه والاعتزاز به .. فهل صنع الإسلام شيئاً لكي يغرس في نفوس الأفراد ، ويوقد ناره في قلوبهم ؟ نعم .. إنّ الإسلام لم يكتف بأن عرف لكلّ فرد حقه نظرياً في هذه الحصانة الإنسانية ، ولكنّه أخذ يهيب به أن يدافع عن هذا الحقّ ، وطفق يحرّضه أشدّ التحريض على أن يقاتل دونه ، وأن يضحي بنفسه في سبيله .
ألا فلنسمع صوت نبيّ الإسلام عليه السلام : ( مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ) . هل سمعت أقوى من هذا إلهاباً وتحريضاً ؟
بل لنستمع إلى كتاب الإسلام حين ينعي على المستضعفين إخلادهم إلى الذلّ طمعاً في السلام ، ورضاهم الهوان خوفاً من فراقهم الأوطان : {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا}[النساء:97] .
هل سمعت أشدّ من هذا وعيداً وتهديداً ..؟
إنّ الكرامة الإنسانية هي قبل كلّ شيء سياج من الحرمة والعصمة ، والصيانة والحصانة ، تصون صاحبها من أن يهون على الناس ، أو يضيعوا حقاً من حقوقه ، أو ينتهكوا حرمة من حرماته .. ذلك هو جانبها السلميّ الخارجيّ الدفاعيّ ، أمّا حقيقتها الإيجابيّة الانبعاثيّة ، فإنّها تاج من الشرف والنبل يتقاضى صاحبه أن ينظر إلى نفسه نظرة احترام وتكريم ، نظرة يعرف بها أنّ مكانته في هذا العالم مكانة السيد لا المسود ، لا أعني سيادة الانسان على الانسان ، فالناس في نظر الإسلام كلّهم سيّد في نفسه ، لا سيادة لأحد على غيره ، ولا سيادة لغيره عليه .
وإنما هي من جهة سيادة عالميّة يسيطر بها المرء على مختلف الأشياء في البرّ والبحر والهواء ، ألم يسخّر لكم مافي السموات ، وما في الأرض جميعاً ، ولم يسخّره هو لشيء منها ؟ ثمّ هي من جهة أخرى سيادة ذاتيّة لكلّ فرد فيما بينه وبين الناس ، سيادة تسوّي رأسه برؤوسهم ومنكبه بمناكبهم ، ومن هذه السيادة المزدوجة تتألف المرتبة الثانية من الكرامة الإنسانية .. كرامة الحريّة والعزّة التي تأبي بصاحبها أن يهون على نفسه ، وأن يذل لمخلوق غيره كائناً ما كان .. وكائناً من كان ....
هذه المرتبة من الكرامة هي كسابقتها منحة طبيعيّة عامّة ، تولد مع الإنسان ، غير أنّه لا يشعر بها على تمامها ، ولا يقدر حقّ قدرها إلاّ المؤمن الموحّد ، الذي لا يعرف السجود لحجر ولا لشجر ، ولا لشمس ولا لقمر ، ولا لملك ولا لبشر ، وهكذا يضمّ كرامة الإيمان إلى كرامة الإنسان .
وأخـيراً ترتفع من مستوى الطبيعة ، ومن مستوى العقيدة ، إلى مستوى السلوك والسيرة ، لتلتقي بمرتبة ثالثة من الكرامة ينشئها المرء إنشاء ، ويكتسبها اكتساباً ، بما يختطّه لنفسه من نهج حميد ، ومايحققه بجدّه وجهده من أهداف رفيعة ، مستوحياً واهبه الإنسانيّة العليا ، مسيطراً على قواه وغرائزه الدنيا ، مسترشداً بأمر ربّه وهداه ، محاذراً من خدع شيطانه وهواه ، تلك هي كرامة العمل الصالح المصلح ، وإنّها لعلى درجات متفاوتة ، تسير طرداً وعكساً على نسبة الاتقان والإخلاص في العمل . من كتاب : « دراسات إسلاميّة » .
وسوم: العدد 947