في علم الكلام
في علم "التوحيد" أو " علم الكلام " أو "علم أصول الدين" أو " علم الفقه الأكبر" أو "علم الإلهيات" أو "علم العقائد" أو " علم الذات والصفات" أو " علم ما يجب لله وما يجوز وما يمتنع عليه"... كل هذه الأسماء عنوان لعلم واحد ...
لم ينشأ بوصفه علما إسلاميا. بل نشأ منبوذا ، يرفض الخوض في مسائله العلماء الراسخون مثل الإمامين مالك وأحمد، ويحذرون الناس منه، ومن الخوض فيه، ويذمون من يتعاطاه، ويتكلم في مسائله، ويسمونهم المتكلمين، ويصفونهم بالمبتدعة ، وصنفه الإمام الغزالي " كعلم الضرورة" وشبهه مرارا بالدواء للمريض، يعطى منه على قدر الحاجة، فإذا سكن مرضه صرف عنه. وكان يقول " العامي " " لو يزني ويسرق خير له من الكلام في علم الكلام " وكيف والزلة فيه بحرف قد تعني ..
وموضوع هذا العلم: البحث في ذات الله " جل الله" ما يجب له، وما يجوز أو يمتنع عليه، وتوحيد الله في ذاته وصفاته وأفعاله ، وتتشعب بالناس الأسئلة والقضايا عن علاقة الاسم بالمسمى، وعن علاقة الذات بالصفات، وهل الصفة زائدة على الذات أو هي عين الذات؟ وعن حقيقة القدر وماهيته، والقدر فعل الله، وعلاقة إرادة الله بإرادة الإنسان، البحث الذي ينشأ عنه القول بالجبر أو الاختيار.
ونشأ هذا العلم منذ نهاية القرن الأول الهجري، في الأجوبة على أسئلة حملها معهم إلى عالم المسلمين ، أتباع ملل ونحل وثقافات، كانت بنت عصرها، وكانت تشغل عقول الناس، والطبقة المثقفة حينها، وتوزع موقف علماء الإسلام كما قلت على موقفين: الرافضون للخوض في هذه المسائل كما أشهر عن الإمام مالك " الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والسؤال عنه بدعة ، وأخرجوا السائل من المسجد" وبين من قارب هذه المسائل والقضايا بحذر، فبين ووضح وأجاب بما رآه متوائما مع كليات وقواعد الإسلام ...
الجديد الذي ينبغي أن نعرفه، أن كثيرا من هذه القضايا لم تعد الآن تشغل أذهان أجيال المسلمين. وأصبحنا لكي نعلم هذا العلم " التراثي" نحتاج إلى كثير من الجهد لنوضح للناس حقيقة المشكلة، ثم نحتاج إلى جهد أكبر لكي نقدم الحل. مثلنا في ذلك كمن يدرس في كلية الطب توصيف الأمراض المنقرضة..وبالمقابل، وها هنا تسفح العبرات، تجول في عقول وقلوب أجيال المسلمين تساؤلات واقعية أكثر خطرا عن حقيقة الكون من الذرة إلى المجرة، وعن نظرية الخلق، وعن كثير من حقائق ومقررات القرآن الكونية، ولا نشك في أن كل ما جاء في القرآن حق ، وأن ربنا قال حتي يتبين لهم أنه الحق، ولكن جماهير المسلمين بحاجة إلى من يتبنى هذا البيان ، وعن تفسير الكثير من النصوص القرآنية، ثم لا يجدون مسعفا ولا شارحا ولا معلما ..لن يشرح لي سر مقبرة النجوم والثقوب السوداء من لم يسمع بها ، وهذا أكيد، كم كتاب علمي حقيقي عن نظرية الخلق درس خريجو المعاهد من أصحاب الاختصاص . وعلى أي نوع من الأدلة ونقدها ونقضها اطلعوا..ولعل لو كنا مثل سلفنا، لتفهمنا القضايا قبل رفضها، وعرفنا مداخلها ومخارجها...وإشهار الرفض ضد كل علم جديد ليس جديدا. ومقاربة قضايا العلوم تحتاج إلى المزيد من العلم والمزيد من الحذر . وكان من قواعد علمائنا: النص الصحيح لا يناقض العلم الصريح.
إن علماء المسلمين في عصرنا لم يحسنوا ما أحسنهم السلف الصالحون، من استيعاب المعطيات الجديدة، والتمكن منها ، وتملك الأجوبة التي تثيره في أذهان أجيال المسلمين، والمسلمون اليوم أمة مغلوبة ثقافتها متنحية، وكلمتها في عالم الكلام ليست العليا..
دائما نستشعر الحاجة أن يكون لنا "علم كلام" يجيب على اسئلة العصر كما أجاب أسلافنا على اسئلة عصورهم . وسنبدأ من معنى قوله تعالى (وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ)
هذه ليست دعوة للمخرقة ولا تسهيل طريق للذين لا يعلمون ، بل مطالبة الذين يعلمون أن يعطوا العلم حقه ...
وسوم: العدد 948