الحياة المثالية بين الحقيقة والتزييف

إن محاولة البعض الوصول إلى الحياة المثالية بطريقة أو بأخرى ، ويسعى للوصول إلى هذه الأمنية الغالية  ببذل ما استطاع من جهد، وإن كان سعيه عندئذ على حساب صحته وماله وأمور أخرى .  ولعله على يقين أن ما يسعى لأجله هو هدف سامٍ ، ويستحق التضحية فنيّتُه خالصةٌ لخالقه، ولايعلم النوايا إلاّ الله . لكن لايجدر به  أن يعيش كغيره عيشَ حياةٍ مزوّرة حافلة بالأكاذيب والتمثيليات المُحبكة  . ( ولكن ) الاستدراكية هذه تقتص في بعض الأحيان من قصة جميلة فلا تكتمل ، أو من مشوار هادئ  لايرى له نهاية سعيدة ، أي لم يكتمل المشوار  ليتوج صاحبه بوشاح المثالية .

يخامرني هاجس يلح علي أن أتكلم عن أولئك الذين يعيشون الحياة ككذبة، كل ما يفعلونه هو التمثيل ليس إلاّ  ، يتظاهرون بشيءٍ في ظرف ما ، وبشيءٍ آخر في موقف ثانٍ ، وكأنهم يعيشون أحداث مسلسل لشخصية غير سوية ، فبمالِهم يستطيعون شراءَ ما يلبِّي احتياجات إتقان الدّور ، وبملامحهم ــ كابتسامتهم المزعومة ــ يحتالون على مَن حولهم ، فيصدقونهم ويصغون لأقوالهم ، بل ويقتبسون آراءهم ورؤيتهم . وهم في حقيقة الأمر  شخصيات مؤثرة جدا ــ ولكن مرة أخرى ــ بأصحاب الرؤية المحدودة والفكر القاصر .

سؤال واحد فقط أوجهه لهم كيف باستطاعتكم التفريق بين شخصيتكم الحقيقية المرعبة والمزيفة المُتقَنة؟ وإن صغت السؤال ذاته بصيغة أخرى بنهاية يومكم الطويل الشاق المتعب وحين ترتمون فوق أسرّتكم  كمحاولة منكم لإلقاء أوجاعكم وازدواجيتكم عليها هل تستمرون بأداء دور المثالية أم أن مرآة الحقيقة التي تواجهكم من كل جانب داخل غرفكم ستقشع عنكم رغما عنكم أقنعتكم لتواجهوا بؤس حقائقكم أي زيف مسيرتكم . 

وهكذا تضيق هذه الحياة عليهم آخر المطاف لسبب ما ، قد يكون  بسيطا أو سخيفا ليس بذي قيمة .  وقد يكون هاما وله تأثيره على مجرى حياة هذا الإنسان المثالي . والأقدمون خاضوا في تحليلات عديدة ، وربما كانت عميقة ، وتستند على بعض الحقائق . بل جعلوا لهذه الحالة من البحوث الفلسفية ، والآراء التي لاتروق لجميع الناس ، وعلى كل حال يبقى لدى الإنسان شعور غريب يجسد فرحَه أو حزنَه أو قلقَه أو ضيقَ نفسِه فيشعر كأنه سجين في دنيا واسعة مترامية الآفاق . ولهذا الشأن مكان قد يكبر أو يصغر في صدر كل إنسان ،  وعندئذ تواجه الحقيقةُ المُـرةُ هذا الإنسان المثالي ، فبضطر للرضوخ إلى هيمنة الحق ، فللناس عقائد ومذاهب ــ في هذه الحياة الدنيا  ــ تعالج من خلالها مايعتريهم من تلك المفاجآت ،  }  وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلــُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ   {116/ الأنعام . فكثرة الناس من أصحاب القلق والضجر والشكاوى لاتعبر عن الحقيقة بدقائقها ، ولا تعطي الفسحة الصحيحة ليبدأ المرء من جديد ، وإنما هي الأهواء حتى ولو غشيتها مسحة الفلسقة العقيمة ، أو المِراء الذميم الذي نشهده دائما عند المفلسين من الإيجابيات . أما نحن أهل العقيدة الإسلامية المحمدية فلسنا أبدا بحاجة إلى تلك الفلسفات والمذهب والنحل بعد أن أكرم اللهُ أمتَنا بوحي السماء الذي لم يتبدل ولم يُحرف ولن يزول مادامت السماوات والأرض  ، وتلك حقيقة لايماري فيها عاقل ولا يردها صاحب عقل سليم . وحسبنا في هذا المقام  قول الله عزَّ وجلَّ : ( إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإنَّا لَهُ لَحَافِظُوْن )  9 / الحِجر . وبهذه العقيدة تهدأ النفس ، ويطمئن القلب ، فالبيان ليس ببيان بشري ، وإنما هو الوحيُ ، والآيات البينات التي نزل بها جبريل عليه السلام على قلب نبيِّنا صلى الله عليه وسلم ، وقد آمن بها جيل النبوة ... أصحابُ رسول الله رضي الله تعالى عنهم أجمعين . ففتحت لهم قلوب الناس في شتى أصقاع الأرض ، ودانت لهم  الدنيا جُِّنها وإنسُها ، واطمأن الخلق ، إلى ماجاءهم من الخالق ،  وامتلأت قلوبهم بأنوار النبوة ، وهدأت مشاعرهم بعد أن عاينوا فضل الله عليهم ورحمته بهم . فلا بد من إصلاح  البيئة التي يعيش فيها الإنسان ، لكيلا يخرج عن سبيل الرشاد ، ويقع في دوامة الحيرة ليعيش الأحلام الوردية ، وليصحو بعدها فإذا هو في قيظ الحسرة .

وسوم: العدد 951