الانحناء لم يعد خياراً
لم تنم الحرب الأهلية اللبنانية إلا من أجل أن تستيقظ.
لقد أسس اتفاق الطائف الذي صنعته رعاية دولية وإقليمية تسوية للحرب الأهلية الطويلة عبر تحويلها إلى نظام سياسي. فكل الكلام المكرر عن التعايش والعيش المشترك كان مجرد غطاء لتحويل الحرب إلى بنية سياسية، تضبط المجتمع من جهة، وتسمح لمافيا المصارف وعصابات قادة الميليشيات بالتحكم بالبلاد ونهبها، من جهة ثانية.
الحرب النائمة كانت كابوس المجتمع اللبناني منذ 1990، فمع كل منعطف يبرز شبح الحرب كي يعيد ضبط الأمور ويسمح للأوليغارشية المالية والعقارية والميليشيوية بالتحكم بآلة السلطة.
نظام الحرب الأهلية بالغ التعقيد، فهو يحتاج كي يتم ضبط عناصره إلى هيمنة خارجية مباشرة، وهذا هو الدور الذي لعبه النظام السوري، الذي كانت مخابراته هي ضابط الكل. لكن هذا الدور بدأ يتحلل منذ تفكك التحالف السعودي- السوري، بعد الغزو الأمريكي للعراق، الذي انعكس بشكل مباشر على لبنان، فقاد إلى اغتيال الحريري، وأدخل عاملين جديدين على المعادلة الداخلية: حزب الله، وريث الهيمنة السورية، وعودة قيادات المنفى والسجون: عون وجعجع إلى الساحة السياسية.
هذا التحول الكبير الذي شهد حرب تموز-يوليو 2006 و7 أيار-مايو 2008، لم يغير معادلة نظام الحرب الأهلية، كل ما فعله هو أنه زادها هشاشة، محولاً الحرب إلى انفجارات موضعية صغيرة، أي إلى حروب صغيرة لم تتوقف منذ 2005، واصطبغت بدماء الاغتيالات الوحشية التي عرفت منذ اتفاق الدوحة هدوءاً نسبياً.
نظام الحرب الأهلية من دون الهيمنة الاحتلالية للجيش والمخابرات السورية، صار معرضاً للانفجار. كما أن الجشع الأسطوري لمافيا النهب وشهية الطبقة الحاكمة لسرقة كل شيء، حولت النظام النيوليبرالي الذي تأسس مع الحريرية إلى ملعب لعصابات المافيا التي أوصلت البلاد إلى الحضيض، وإلى الغرق في انهيار اقتصادي ومالي لا قعر له.
انتفاضة 17 تشرين كانت محاولة قام بها المجتمع وطبقاته الوسطى لتلافي الانهيار الشامل الذي وصل إليه لبنان اليوم.
في مواجهة الانتفاضة وجد النظام نفسه أمام المأزق، فاضطر إلى اللجوء إلى العنف الذي تولته ميليشيات الثنائي الشيعي لوضع الانتفاضة أمام حائط الحرب الأهلية.
لكن إجبار الانتفاضة على التراجع أمام العنف العاري الذي شاركت فيه القوى الأمنية أيضاً، لم يعنِ أن النظام وجد حلاً لأزمته البنيوية.
حكومة حسان دياب كانت نموذجاً للفشل أمام هول الانهيار الاقتصادي، وسريعاً ما تحولت حكومة الدمى هذه إلى أداة للانهيار، وتم التلاعب بها من قبل لوبي المصارف في مجلس النواب، بحيث تحولت إلى مسخرة الحكومات.
وعندما تم تفجير نيترات الأمونيوم في بيروت، ووسط هول الكارثة، حاول نظام الحرب الأهلية، بمساعدة فرنسية هذه المرة، إنقاذ نفسه عبر اقتراح تشكيل حكومة اختصاصيين، وسرعان ما انهار هذا الاقتراح ودخلنا في دوامة تعطيل تشكيل الحكومة، التي تتقنها طبقة المافيا، وعلى رأسها «الصهر المعطّل» وصولاً إلى الحكومة الميقاتية الحالية التي صارت أشبه بنكتة سمجة مع وزرائها من حديثي النعمة بالسلطة ومحترفي الاستزلام.
لكن إحالة انفجار المرفأ إلى المجلس العدلي تحوّل إلى عنصر تفجير. تمت تنحية قاضي التحقيق الأول فادي صوان بعدما اتهم رؤوساً كبيرة في النظام، وعُين في مكانه قاضٍ شاب أجمع الجميع على نزاهته ومهنيته اسمه طارق البيطار.
وعندما وصل البيطار إلى استدعاء السياسيين والمافيويين واتهمهم تمهيداً لاعتقالهم، لم يعد أمام النظام سوى اللجوء إلى سلاحه الأخير: التهديد الجدي بالحرب الأهلية.
وتدرج الأمر من كلمة «قبع» البيطار الذي استخدمها وفيق صفا إلى خطاب نصرالله وصولاً إلى تهديدات وزير الثقافة في مجلس الوزراء، وانتهاء بمقتلة الطيونة.
لا جديد، فنظام الحرب الأهلية يحتمي بالحرب كي يحمي نفسه من المحاسبة، ولقد رأينا الوزير السابق علي حسن خليل، وهو مطلوب للعدالة بمذكرة توقيف، يَتَدَيَّك على شاشة تلفزيون «الميادين» كأنه صار قاضياً يريد القضاء على القضاء.
تحليل مقتلة بدارو والتوتر المسلح بين الشياح وعين الرمانة يجب أن يبدأ من هذا المعطى.
لا شك أن هناك تداعيات إقليمية ودولية، ولا شك أيضاً أن السعودية وأمريكا وإسرائيل سعيدة بورطة حزب الله في هذه الرمال المتحركة.
لكن لا القوات اللبنانية، ببنيتها الطائفية والميليشيوية، ولا عناصر من الجيش، مثلما يقال، كان في استطاعتها إطلاق النار لو لم يقم التحريض المباشر والطائفي على قاض يحاول القيام بمهمته، بتمهيد الأرض لهذه المواجهة، ولو لم يعبّر فائض القوة عن نفسه بهذه الطريقة التي توحي بأن الثنائي الشيعي هو الحاكم بأمره في لبنان.
ما شهده لبنان في الطيونة هو حرب أهلية صغيرة، تحمل في ثناياها كل احتمالات انفجار الوضع. واللافت أن رؤساء الحكومة السابقين الذين جعلوا من أنفسهم ناطقاً باسم السنة، تبنوا على لسان فؤاد السنيورة موقف الثنائي الشيعي، كأن الدفاع عن استمرار نظام الحرب الأهلية هو خشبة خلاص الطبقة المهيمنة بأسرها.
هل تعني هذه اللحظة اللبنانية أن حاضر لبنان هو الماضي؟ حاضرنا مهدد بالتحول إلى نسخة مكررة عن ماضينا. ما هذا الهراء، هل تاريخنا مجرد هراء يكرر نفسه بأشكال مختلفة؟
السؤال يبدو مخيفاً، وخصوصاً إذا وضعنا لبنان في سياق التفكك العربي، الذي تمتطيه إسرائيل من أجل استمرار هيمنتها على المشرق العربي، واستباحتها لفلسطين.
لعبة نظام الحرب الأهلية مكشوفة، إما استسلام المجتمع للمافيا أو تدمير المجتمع والكيان وما تبقى من الدولة.
هل يعرف أمراء النظام أن خيار الحرب الأهلية المكشوفة لن تعني نهاية المجتمع اللبناني فقط، بل ستعني نهايتهم هم أيضاً؟
وحدها العدالة تنقذنا من حفرة نظام الحرب الأهلية. الحرب جددت لنفسها بقانون العفو العام الذي سلط أمراءها على الدولة، وتحاول اليوم تحطيم القضاء كي يستمر نظامها الكسيح. هذا ما يجري، فعلى الرغم من تعقّد التفاصيل، فإن المعركة الأساسية هي اليوم بين العدالة والمافيا، لذلك يجب أن لا يُهزم طارق البيطار كي لا ينهزم احتمال العدالة.
أما الحرب التي يهددوننا بها فستكون نهايتهم وربما نهاية لبنان أيضاً، لكن انحناء المجتمع اللبناني لم يعد خياراً.
وسوم: العدد 951