المسلمون والتجديد ... (1) في تجديد التفسير ... درس عملي
(سَنُرِيهِمۡ ءَايَٰتِنَا فِي ٱلۡأٓفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ أَوَ لَمۡ يَكۡفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُۥ عَلَى كُلِّ شَيۡء شَهِيدٌ).. فصلت
وسأكتب – إن شاء الله - في تجديد التفسير، وتجديد علم أصول الدين، وتجديد الفقه، وأستعين بالله ، واستفتح بالذي هو خير، ولن يحجرني عن ذلك تفريط المفرطين، ولا تثريب المثربين ..
وكتب الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي، منذ ألف عام موسوعته العظمى " إحياء علوم الدين " كتبها بعد الخلوة والعزلة والشك، وارتقائه المرتبة التي قال عنها " وعدت ولكنني ما عدت ".
وحين نضع عنوان الإمام الغزالي رحمه الله تعالى " إحياء علوم الدين" في سياقه الدلالي، ونستنبط منه حسب دلالة المخالفة، يتبدى لنا معنى خطير، يصعب علينا الإفصاح عنه، فهل كان الإمام أبو حامد يعتقد أن "علوم الدين " في عصره قد ماتت، أو أثرها، أو وعيها، في قلوب المسلمين؛ حتى باتت بحاجة إلى إحياء!! وتذكر أننا كنا في القرن الخامس الهجري، فقط ..
وعلى ذكر التجديد فقد كتب المفكر والداعية الإسلامي محمد إقبال رحمه الله تعالى منذ قرن كتابه الأهم " تجديد التفكير الديني" فتحدث عن تجديد العقل لتجديد الفهم، ويا له من معنى جميل لم يحط به حتى الآن الكثيرون..
نعلمُ أن الإسلام والمسلمين قد ابتلوا بهذا العصر، بطائفة من مثيري الفتنة، ومروجي الشبهة ، خلطوا بين التجديد والتمييع، فأساؤوا حين ميعوا، وأساؤوا حين مكنوا أعداء التجديد، من سلاح يصادرون به كل محاولة جادة قاصدة للتجديد المستحق. فهل يمنعنا فعلُ أولئك الضلاّل أو الممخرقين من السير في طريق الحق، الذي يفتح الآفاق أمام دعوة كتاب الله؟؟
إن أهم ما ينبغي أن نعتقده في طريق "تجديد تفسير القرآن الكريم" ما اعتمده عقلاء الأصوليين من قبل تحت عنوان " عموم اللفظ لا خصوص السبب".
القرآن الكريم خطاب الله المتعالي للبشرية جمعاء، لبني آدم ، وكم مرة خاطب القرآن الكريم الناس كل الناس (يا أيها الناس) و(يا بني آدم) خطاب رباني متعالٍ لم يوجه لبيئة محدودة في زمان أو مكان محدودين فقط، ولا يمكن أن يحصر مدلول خطابه في " فترة أو حقبة أو جماعة من الناس. وعلى ضوء ما تقدم
فلنقرأ معا قول الله تعالى
(سَنُرِيهِمۡ ءَايَٰتِنَا فِي ٱلۡأٓفَاقِ وَفِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّۗ أَوَ لَمۡ يَكۡفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡء شَهِيدٌ)
ولنحاول أن نعود إلى ما قال فحول المفسرين فيها، لندرك كيف أن المفسرين الأولين لم يرتشفوا من معين رحيقها إلا أقل القليل..
ونعود لنتساءل كيف فهموا سين المستقبل والمدى الزمني المفتوحة عليه في قوله (سنريهم)..
ثم عائد لضمير " هم " من قوله (نريهم) و(أنفسهم) ..
ثم تصورات المفسرين لقوله (وفي أنفسهم) وحين رأى بعضهم أن المعنيّ بالرؤية الأولى " جيل الصحابة " وأن المعنيّ " بأنفسهم" أهل مكة. وحين رأوا أن الآيات في الآفاق هي وقائع انتصار الرسول، وان أنفسهم هو فتح مكة. نعم لقد تفاوتت آراء المفسرين القدماء رحمهم الله تعالى، في تفسير الآية الكريمة، وهذه المحاولة هنا، ليست للحط من شأنهم، ولا للتقليل من قدرهم، هيهات، ولكنه كتاب الله العزيز الذي لا يمكن لمدع أن يدعي أنه " أحاط بعلمه " في أي زمان ومكان!!
لا ننكر أن بعض عظمة القرآن أن آياته تحتمل من التفاسير بقدر ما تحتمل عقول المخاطبين، من العلوم والمعارف، وعلى القواعد التي وضعها العلماء الضابطون لمناهج التفسير وقواعده ..
ولا ننكر أن أجيالا قادمة قد تجد في هذه الآية وغيرها، آفاقا للآيات في الأنفس والآفاق، لم تحط بكنها بعقولنا وعلومنا حتى اليوم، ولا يمكن أن نحيط، وأن ما يقال في إعادة فهم وتفسير هذه الآية الكريمة يقال في أخوات لها كثيرات كريمات.
ولكن الذي نؤكده فقط أننا وفي عصرنا، وبنا استجد لنا من معارف وعلوم ثابتة يقينية، في شتى حقول المعرفة البشرية، نحتاج حاجة جادة جازمة، إلى إعادة قراءة القرآن الكريم وتفسيره بعيون العصر ومعارفه وعلومه ..
واختلافنا على المفسرين الآوائل أو تجاوزهم في بعض الأمر لا يعني نكرانا لسبقهم ولا لفضلهم، ولا جحودا لما تيسر لهم من معارف قرؤوا على ضوئها " خطاب ربهم "
وأعود إلى السين في سنريهم فأجدها وعدا مفتوحا على الزمان، يشمل كل إنسان عاقل خوطب به القرآن، يجد من خلالها كل جيل جديدا من البينات المحكمات في كتاب الله، حتى يعلم العقلاء الجادون، أنه الحق من ربهم ..
الآيات البينات المحكمات في خلق الإنسان، جسمه، وروحه، ونفسه، وتكوينه، ولو رحنا نؤلف على ضوء ما استجد لدينا من معارف مجلدات لما استوفينا دلالات وإشارات هذا الكتاب العزيز، أليس من حق أن نقرأ كتاب الله في ضوء ما استجد لنا من علوم ومعارف ثابتة، حتى يتبين لنا أنه الحق؟! وما حكم من يلغ هذا؟ ومن يعطله؟ ومن يحول دونه؟
ثم الآيات المحكمات في الآفاق، في حقائق الزمان والمكان وفلسفتهما، في تصورنا "للخالق" ليس كمثله شيء" وتصورنا لمعاني " الأول والآخر والظاهر والباطن" وفي معاني السموات والأرضين، و آيات الله في الأفاق تحدثنا عن الطارق، وعن النجم الثاقب، وعن الغاسق إذا وقب، فيكون مد وجزر ليس على مستوى البحار أيضا بل على مستوى الدماء في الشرايين أيضا، وفي الأنفس مرة أخرى، يحدثنا عن النفس المطمئنة وأختها اللوامة والثالثة المدسّسة ونظيرتها المزكيّة، يحدثنا عن الصلب والترائب، وعن خلقنا أطورا، وعن النطفة والعلقة والمضغة وعن خلايا العظام تسبق، وعن الكائن الذي يصبح بنفخة قدسية (خَلقاً آخر) وعن ضعف الطفولة وقوة الشباب وضعف الشيبة، وعن الظلمات الثلاث وعن..وعن .. نحتاج إلى علم الجنين وعلم وظائف الأعضاء وعلم النفس وعلم الوراثة لنفهم بعض آفاق ما قال ربنا..
ونتبين أن ما قاله ربنا في خطاب أهل عصرنا ونتبين أنه الحق..
نعم هي آية...
ووراء هذه الآية آيات كثيرات كلها نحتاج إليها، لإعادة إحكام نظريتنا المعرفية عن كثير من تصوراتنا عن الإنسان والكون والحياة ..
نحتاج إلى تجديد "التفسير" لنعلم أكثر عن نسبية الزمن وكيف يكون يوم بألف سنة، وآخر بخمسين ألف سنة، وإذا كان الزمن " دورة الفلك" كما يقول الأقدمون ، فماذا يكون فوق الفلك حيث لا فوق ولا تحت ، ولا حقيقة ندركها للزمان ولا للمكان، وحقيقة الكرسي الذي وسع (السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ) ونظل كل واحد منا في أفلاكنا نسبح كما الشمس والقمر والنجوم في أفلاكهم يسبحون ...!!
تجديد التفسير ليس نعيا لما كتب الطبري والقرطبي والرازي وابن عطية والزمخشري ...وإنما هو نعي لكسل فريق من أبناء عصرنا لم يجدّ بهم الجد ليحدثوا الناس عن الذخائر في كتاب ربهم (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)
(لهم) للناس أجمعين، على اختلاف ألوانهم وأجناسهم ولغاتهم وثقافاتهم وعلومهم و(أنه الحق) أي هذا الكتاب العزيز هو الحق من لدن عليم خبير...
وسوم: العدد 951