النبي صلى الله عليه وسلم ربيع الدنيا والحياة والإنسانية

الربيع عند العرب ربيعان: ربيع الشهور، وربيع الأزمنة، وربيع الشهور شهران بعد صفر ربيع الأول وربيع الآخر، وربيع الأزمنة ربيعان: الربيع الأول: وهو الذي تأتي فيه الكمأة والنَّوْر [الأزهار والكلأ]، والربيع الثاني هو الذي تدرك [تنضج وتكتمل] فيه الثمار.

وسيدنا، وحبيبنا، ونور قلوبنا، ورياض نفوسنا محمد صلى الله عليه وسلم، تجده في كل هذه المعاني من الربيع، فلو جمعت كل أزهار الدنيا، وكل ربيعها وأرباعها، وكل منتوجها وثمارها، وكل جمالها ونتاجها تجدها نقطة في بحر جوده ونتاجه وثمرات دعوته صلى الله عليه وسلم، فهو الرحمة المهداة.

فشهر ربيع الأول ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وشهر ربيع الأول هاجر فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وشهر ربيع الأول انتقل وجوده في الدنيا، وصحبته لخير جيل ظهر على الأرض، جيل الرعيل الأول في الإسلام، انتقل إلى الرفيق الأعلى، كما أطلق عليه هو في حديثه الأخير قبل انتقاله من هذه الدنيا كما في صحيح البخاري [4438]: فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: دَخَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَا مُسْنِدَتُهُ إِلَى صَدْرِي، وَمَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سِوَاكٌ رَطْبٌ، يَسْتَنُّ بِهِ، فَأَبَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَصَرَهُ [أي مدَّ بصرَه إليه]، فَأَخَذْتُ السِّوَاكَ، فَقَصَمْتُهُ، وَنَفَضْتُهُ، وَطَيَّبْتُهُ، ثُمَّ دَفَعْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَنَّ بِهِ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَنَّ اسْتِنَانًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ، فَمَا عَدَا أَنْ فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَفَعَ يَدَهُ، أَوْ إِصْبَعَهُ، ثُمَّ قَالَ: (فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى) ثَلَاثًا، ثُمَّ قَضَى [مات]، وَكَانَتْ تَقُولُ: مَاتَ بَيْنَ حَاقِنَتِي وَذَاقِنَتِي [أي بين كتفي ورقبتي، أو بين صدري وذقني].

إذن موته صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول، هو انتقال به إلى رفيق أعلى، وهو أعظم من الرفيق الأول، فهو كما في صحيح ابن حبان [6591]: عن عائشة تقول: فَجَعَلْتُ أَمْسَحُهُ وَأَدْعُو لَهُ بِالشِّفَاءِ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لَا، بَلْ أَسْأَلُ اللَّهَ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى، مَعَ جِبْرِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وإِسْرَافِيلَ».

في هذا الشهر الذي هو ربيع الشهور، وربيع الأزمنة، وربيع الدنيا كلها، ولد النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه هاجر وارتفعت رايته في الدنيا، وظلّل برحمته كل العالمين، وفيه انتقل إلى رفعة أعلى وأكبر من رفعته في الدنيا، انتقل إلى الرفيق الأعلى، وهل أعلى وأفضل من هذا الرفيق؟.

فشهر ربيع هو شهر هذا النبي الكريم، وفي هذا الشهر ولد مع ولادة النبي في ربيع، ولد ربيع الدنيا، وبدأت الحياة تتغير وتختلف بين ما قبل ربيع النبي الذي ولد وهاجر وانتقل إلى الرفيق الأعلى، فبدأت الحياة تتغير وتختلف، فبدأت الدنيا تشهد اخضرار الدنيا، وظهور قوة فيها تنشر النور في الآفاق، وتنشر العدل بين الناس، وبدأت هذه الأمة بالانتشار في ميادين الدنيا ترفرف عليها راية التوحيد، إذن هو ربيع الأمة، وربيع الحياة، وربيع البشرية كلها، وهكذا أصبح اسم محمد عليه الصلاة والسلام ملء السمع والبصر، وملء الدنيا بأكملها، وسارت به الآفاق، وعندنا نحن – المسلمين – اسم محمد أعظم اسم يسير بين الناس، ولكن:

في أزماننا شُغل الكثيرون عن نبيهم بكثير من أمور الدنيا، وتفاهاتها، ومسلّياتها، وهمومها، وبدأ الناس من حاقد فاسد، وفي شهر النبي يتنقّصون ويهزؤون، ويسيئون لهذا النبي وأمته، وكأن هذا نوع من ضرب الأمة على رأسها، وصاح بها: استيقظوا، فعندكم أعظم مخلوق تنتسبون إليه، وتدّعون أنكم من أمته، وهو في ذلك كما قال الشاعر العظيم أبو تمام رحمه الله:

نَزَعوا بَسهْمِ قَطيِعةٍ يَهْفُو بِهِ ... ريِشُ العُقُوقِ فكَانَ غَيْرَ سَدِيدِ

وإذَا أَرَادَ اللهُ نَشْرَ فَضيِلَةٍ ... طُويِتْ أَتَاحَ لَها لِسَانَ حَسُودِ

لَوْلاَ اشْتِعالُ النَّارِ فيما جَاوَرتْ ... مَا كَانَ يُعْرفُ طِيبُ عَرْفٍ العُودِ

لَوْلاَ التَّخَوُّفُ لِلْعَواقِبِ لم تَزَلْ ... للِحاسِدِ النُّعْمَى عَلَى المحْسُودِ

فكم أيقظ هذا الحاسد الحاقد من نفوس نامت، وقلوب تاهت، وتاريخ أصبح من المنسيات، فجاء هذا الحاسد الحاقد الحاقن النافق، وأظهر ما في النفوس من جواهر، وما القلوب من أنوار حبٍ لهذا النبي الكريم.

ولكن:

هذا النبي الذي ملأ العالمين نوراً، وأصبح أعظم رجل ظهر في تاريخ الدنيا برأي أعدائه قبل أوليائه، هذا النبي الذي قال عنه ربه: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}.

ألا يعتري الإنسانَ العجبُ من هذه الأمة التي انتفضت من أجل نبيها، بسبب حاقد فاسد تكلم، وأجاز لمن يسيء لنبي هذه الأمة، ولم تنتفض هذه الأمة، لما يتغلغل في صفوفها من أمثال هؤلاء المسيئين لهذا النبي الكريم، فكم يُشتَم النبي في شوارع كثير من بلاد المسلمين، وكم من وسائل إعلام، بكل تنوعاتها وأشكالها، تحمل على هذا النبي الكريم، وتتهم أحاديثه، وأصحابه، وكتابه، وتتنقّص من هذا كله، والناس يسكتون، ولا تتمعّر وجوههم لهذه الأحوال السافلة لدى أعداء محمد صلى الله عليه وسلم من المنتسبين له ولأمته، ويحاولون بأي طريق يحاربونه، في الشوارع يحارب ويُشتم من قبل عوام كثير من المسلمين، وفي مجالس العِلْية من القوم يشتم ويسخر منه، وفي مجالس كثير من المثقفين [أو مدعي الثقافة والعلم] يحارَب، ويُطعَن في دعوته، وفي شخصيته، وفي بيته وعرضه، وفي أحاديثه، وادّعاء أنها تخالف نتاج العلوم الحديثة، ولا تصلح لهذه الأمة في هذا العصر، إن اعتبروها – على أحسن أحوالهم – أنها صالحة لعصر ما قبل أربعة عشر قرناً؟

أفلا يعجب المرء من أمة تثور لكلام ورسوم من معتوهين، وحاقدين، وفاسدين، وتصمت، وتبلع، وتهضم كل ما يُحارَب به هذا النبي في أرض تنتسب إليه، وشعوب تتسمى باسم دينه، والقوة فيها تسخّر لحربه، وحرب دينه، ونفوسٍ تستمرئ هذا الأمر، وكأنه لا يعنيها.

ورضي الله عن حسان بن ثابت عندما رثى نبينا صلى الله عليه وسلم فقال:

ما بَالُ عَينِكَ لا تَنَامُ كأنّمَا ... كُحِلَتْ مآقِيها بكُحْلِ الأرْمَدِ [المآقي: العيون]

جزعاً على المهديّ، أصبحَ ثاوياً... يا خيرَ من وطئ َ الحصى لا تبعُدِ

وجهي يقيكَ التربَ لهفي ليتني... غُيّبْتُ قَبْلَكَ في بَقِيعِ الغَرْقَدِ[مقبرة أهل المدينة]

بأبي وأمي منْ شهدتُ وفاتَهُ... في يومِ الاثنينِ النبيُّ المهتدي[أي توفي يوم الإثنين]

فَظَلِلْتُ بَعْدَ وَفَاتِهِ مُتَبَلِّداً.... متَلَدِّدًا يا لَيْتَني لم أُولَدِ [المتبلد والمتلدد: المدهوش]

أأُقِيمُ بَعْدَكَ بالمَدينَة ِ بَيْنَهُمْ؟...يا لَيْتَني صُبّحْتُ سَمَّ الأسْوَدِ[الأسود: أخبث الحيات]

أوْ حلّ أمرُ اللهِ فينا عاجلاً...في رَوْحَة ٍ منْ يومنا أوْ في غدِ

فتقومَ ساعتُنَا، فنلقَى طَيِّباً...مَحْضَاً ضَرَائِبُهُ كَريمَ المَحْتِدِ[تقوم ساعتنا: القيامة، الطيِّب هو النبي صلى الله عليه وسلم، المحتد: الأصل]

يَا بِكْرَ آمِنَة َ المُبَارَكَ بِكْرُها،...وَلدَتْهُ مُحْصَنة ًبِسعْدِ الأسعُدِ[الحَصَان: العفيفة، سعد الأسعد: سعد السعود تبركاً به]

وصلى الله وسلم على خير الورى، وخير من وطئ الثرى.

وسوم: العدد 952