رؤية حركة حماس ـ الصحوة الجديدة
بتاريخ 3/11/2021، قدم الأخ إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، رؤية الحركة «للنهوض بالمشروع الوطني الفلسطيني». وفي ظني، لم يسبق لحركة حماس أن قدمت مشروعاً أكثر تطوراً وشمولاً ووضوحاً وقابلاً للتطبيق مما قدمه الأخ هنية. وإذا صدق العزم والقول، فإننا أمام مشروع وطني أصيل بعيد عن حذلقات الميتافيزيقيا واللعب على العواطف والتعابير. إنه مشروع جدير بالانتباه والتعليق، بدون التخندق في المراجع التاريخية والنبش في الصدور. يجب أخذ المشروع، كما طرحه الأخ هنية، وبكل حسن النيّة.
المشروع لا يخلو من قراءة خاطئة لبعض الأحداث والمتغيرات، إلاّ أن ذلك لا يقدح في جديّة الطرح والتمسك بما ورد فيه من منطلقات سليمة بعيدة عن اللغو. مثال القراءة الخاطئة ما ورد في المشروع من أن أحد المتغيرات التي طرأت على الحالة الفلسطينية، هو إلغاء الانتخابات التشريعية والرئاسية والمجلس الوطني. ووجه الخطأ في ذلك هو القصور في فهم واستكناه طبيعة الانتخابات التشريعية والرئاسية، ذلك أن مثل هذه الانتخابات ابتدعها الاحتلال، وعلى نحو أدق، ابتدعها مناحيم بيغن، وقدمها للرئيس السادات حين كانت المفاوضات بينهما في كامب ديفيد تتعلق بسلطة الحكم الذاتي، وكان بيغن صريحاً وحاسماً مع السادات حين قال له، لن تكون هناك دولة للفلسطينيين، وكل ما يمكن أن يصل إليه الفلسطينيون هو الوصول إلى صيغة حكم ذاتي يتم انتخابه من فلسطينيي الضفة والقطاع، بدون الشتات.
وحين قدم إسحاق رابين مشروع اتفاق أوسلو إلى الكنيست، كرر الأقوال ذاتها، وقال لن تكون هناك دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وكل ما قد يصل إليه الفلسطينيون هو حكم ذاتي، منتخب من فلسطينيي الأراضي المحتلة بدون الشتات. واختصر رابين المسأله لأعضاء الكنيست بقوله «هذا هو انتصار للصهيونية». وكما يرد القول على ماهية السلطة وانتخاباتها، يرد كذلك على انتخاب رئيس السلطة، فهو رئيس لسلطة من صناعة الاحتلال، التي فصّلها على مقاسه. ومن يريد أن يتعرف على ماهية السلطة ورئيسها، عليه مراجعة الأمر العسكري رقم 947 الصادر عن الحاكم العسكري عام 1981 (أي بعد محادثات كامب ديفيد) الذي أنشئت بموجبه الإدارة المدنية، بناءً على طلب مناحيم بيغن. وحين وصلنا إلى مرحلة أوسلو، تمّ إنشاء السلطة الفلسطينية، التي نقلت إليها صلاحيات الإدارة المدنية التي خلقها الحاكم العسكري وهو مصدر صلاحياتها. ومن الجدير ذكره أنه حين أعاد الحاكم العسكري إحياء الإدارة المدنية في السنوات الأخيرة، احتجت الحكومة الفلسطينية على ذلك، واعتبرت ذلك تقويضاً لصلاحياتها. ومن هنا نفهم ما يردده الأخ محمود عباس، من أنه لا يستطيع أن يصل إلى مكتبه بدون إذن ضابط الاحتلال. رئيس السلطة، باعترافه، هو ليس أكثر من مختار! وهنا نسأل عن أي انتخابات، ولأي سلطة تريد حماس أن تجري انتخابات لها أو لرئيسها. يجب عدم الانجرار وراء شعار «الانتخابات» ذلك أنها انتخابات تجري تحت مظلة أوسلو وتحت رحمة الاحتلال، ومن هنا يجب إعادة النظر في مسألة طرح انتخابات تشريعية ورئاسية، فهي تأكيد لسلطة الاحتلال والعيش في ظله وتحت أوامره. إنها سلطة لا تملك من السلطة شيئاً إلا الالتزام بأوامر سلطة الاحتلال.
أما إجراء انتخابات لمجلس وطني فلسطيني فهو الواجب الوطني الذي يقع على كل فلسطيني العمل لإنجازه، إنه فرض عين، فهو الرابط الذي يجمع كل الفلسطينيين أينما كانوا، وقد أحسن الأخ هنية حين طرح ضرورة إعادة تشكيل القيادة الوطنية متمثلة بمنظمة التحرير، ومعلنا أنه «لا نطرح بديلاً عن منظمة التحرير، ولكننا نتكلم عن كيفية إعادة بناء المنظمة». وهذا طرح جديد من قبل حركة حماس، التي يقع عليها الآن عبء العمل على إنجازه، ذلك أن هذه هي المهمة الأكثر جدّيه في المسار الفلسطيني الحالي، وهي خشبة الخلاص من براثن اوسلو وفساد سلطة أوسلو، إنه الطريق الأسلم لفرز قيادة جديدة ومنهج جديد وضخ دماء جديدة في شرايين المنظمة. من المعالم الصحيحة في طرح الأخ هنية، أنه يصف القضية الفلسطينية بأنها قضية «تحرر وطني»، وأي توصيف خارج هذا المعنى يدخلنا في اضطرابات سياسية، ذلك أن البعض ـ على حد قوله – انجرف في أوهام «بناء سلطة على طريق دولة فلسطينية». إنه طرح سليم يصحح به الاخ هنية ما سمي تزويراً بإعلان استقلال الدولة في 15/11/1988، ذلك الإعلان لم يكن إلاّ «حيلة» لتمرير قبول منظمة التحرير بالقرار رقم 242 الصادر عن مجلس الأمن الدولي، الذي عارضته المنظمة بشدة منذ صدوره. وما تطرحه القيادة الفلسطينية حالياً من شعار الدولة هو تزييف للوعي، ذلك أن اتفاقيات أوسلو لم تتحدث عن «دولة» فلسطينية، بل إن كلمة «دولة» لم ترد في أي من اتفاقيات أوسلو. وهذا يكشف عن زيف الادعاء بأن أوسلو تنتهي إلى دولة، إلاّ إذا كانت هناك اتفاقيات سرية في مفاوضات أوسلو ولا نعلم عنها.
إن الالتصاق بالمصالح الوطنية وعدم الانجرار إلى التسويات والشعارات الزائفة هو السبيل إلى الانتصار. ولنأخذ تمسك طالبان بشعارها الأول والأخير وهو، دحر الاحتلال الأمريكي، وقد أنجزته بدون تقسيم أفغانستان إلى مناطق أ، ب، ج، وبدون القبول بسلطة حكم ذاتي. ومن الطريف أن طالبان أنجزت هدفها الرئيسي بدون اتفاقيات معقدة وبدون مساومات، وأدركت الإدارة الأمريكية أن الاهداف بسيطة وواضحة، ذلك أن طالبان تتمسك بدحر الاحتلال، والولايات المتحده تريد عدم استخدام أفغانستان نقطة انطلاق ضدها، كما حدث مع بن لادن. وتوصل الطرفان إلى أهدافهما في اتفاقيه مختصرة لم تتجاوز كلماتها ألفا وستمئة كلمة، بينما وقعت قيادة منظمة التحرير أكثر من ستمئة صفحه لكي تتحول إلى حارس للاحتلال وخادم لمستوطنيه.
وأظن أن حركة طالبان لم تهتم أثناء نضالها بـ»الرأي العام» وكيف ستتعامل مع الغرب أو الشرق، ولم تهتم باللوبي الصهيوني، أو اي لوبي آخر، ولم تحاول أن تكسب «ود» الإدارة الأمريكية بالذهاب إلى الحركة الصهيونية أو إسرائيل، وتطبّع معها كي تفتح لها باب البيت الأبيض، وظلت متمسكة بأهدافها الأصلية بدون تبديل، ولم تلعن ميثاقها الوطني، ولا راحت تستجدي أحداً. ورغم أنها ظلت حركه معزولة ومقاطعة إقليمياً ودولياً، وحركة فقيرة لا تملك أسلحة فتاكة أو أجهزة استخبارات متقدمة، إلاّ أنها أنجزت استقلال بلادها، وحافظت على الوحدة الإقليمية لترابها الوطني، بتمسك عنيد بأهدافها القومية، وقد سبقها في ذلك قادة الثوره الجزائريه المظفرة وثورة فيتنام العظيمة.
ويلاحظ الأخ إسماعيل هنية في طرحه، أن التحدي الذي يواجه القيادة الفلسطينية هو انها وافقت على تغييب نصف الشعب الفلسطيني، وهم فلسطينيو فلسطين 1948 والشتات، وباتت القضية الوطنية هي قضية فلسطينيي الضفه وقطاع غزة. ويحذر الأخ هنية من أن هذا الترتيب قصد منه ـ وبحق – شطب حق العودة، ويؤكد أن المشروع الوطني لا يمكن أن ينهض بدون التكامل بين الداخل والخارج «والطائر الفلسطيني لا يمكن أن يحلق بجناح واحد». ولا شك بأن الأخ هنية يضع إصبعه على الجرح الذي استفحل وازداد التهاباً في جسد القضية الوطنية وهو إصرار القيادة على وضع كل خياراتها في سلة المفاوضات، والتمسك بخيار السلام كخيار استراتيجي والارتقاء بالتنسيق الأمني إلى مرتبة «التقديس».
وهذا ـ في ظني- أفسح في المجال لتدفق المستوطنين على الأرض المحتلة واستباحتهم شعبنا وحرمانه حتى من قطف ثمار الزيتون الذي هو الغذاء الرئيسي لهم. هذا القصور في النظر فتح الباب على مصراعيه للمستوطنين، وبعد أن كانوا بضعة آلاف أصبحوا حوالي ستمئة وخمسين ألفاً وعلى شعبنا الآن مجابهة جيش الاحتلال النظامي وجيش المستوطنين معاً. وهذه خطيئة القياده التي يجب التخلص منها اليوم قبل الغد، ذلك أن هيمنة المستوطنين على الأرض المحتلة وشعبها تزداد تجذراً.
ما يطرحه الاخ هنيه يتصف بالجديه والوعي، وهو جدير بالاهتمام لاستكمال ما غاب من نقاط، أو بلورة نقاط على نحو أدق. ورغم صواب الطرح، فإننا لا نغفل أن حركة حماس مليئة بالاجتهادات والتيارات، وعلينا الانتظار لكي نرى أين سترسو سفينة هنية.
وسوم: العدد 956