المجتمع الإسلامي الأول
كان المجتمع الإسلامي الأول الذي صاغه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ مجتمعاً شديد التفوق، سامق الذرى، لم تتم صياغته بين يوم وآخر، ولا في خلال سنة وأخرى، بل تم عبر أيام طويلة دامت قرابة ربع قرن من الزمن، ثلاثة عشر عاماً في مكة المكرمة كانت الدعوة الإسلامية خلالها على محك الشدة والمحنة والبلاء، وعشرة أعوام أخرى في المدينة المنورة كانت الدعوة فيها قد دخلت عهد الدولة، وكانت في جهاد لا يفتر، وحركة وكفاح، وتحديات شديدة الخطورة.
وعلى مدى هذا الزمن الذي امتد حوالي ربع قرن، كانت عملية صياغة المجتمع المسلم المتفوق تتم من خلال العناء والمتاعب، والصعاب والتضحيات، والتمحيص المتوالي، والشدائد التي كان بعضها يأخذ برقاب بعض، والمعارك العسكرية، والمعارك النفسية. من خلال ذلك كانت تتم التزكية النفسية، والتمحُّض للحق، والنجاة من أدران النفس وأهوائها، والصدق التام مع الله عز وجل. ولا ريب أن ذلك المجتمع كان مجتمعاً متفوقاً على جميع المجتمعات البشرية في القديم والحديث. ترى أين كان يكمن هذا التفوق؟
إن هذا التفوق كان تفوقاً روحياً بالدرجة الأولى، يأتي بعده التفوق الاجتماعي والأخلاقي، وهو كله ثمرة للعقيدة، ولم يكن تفوقاً عسكرياً أو اقتصادياً أو مادياً، فقد كان أعداء الإسلام أكثر عدداً وأقوى عدة، وأوفر مالاً وموارد، وهذه الظاهرة صحّت على أيام ما بَعْدَ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كما صحّت على أيامه. ففي زمن الفتوحات الكبرى بعد ذلك، كان التفوق الروحي للمسلمين، وكان التفوق المادي لأعدائهم.
وبهذا التفوق الروحي الساحق الذي أحرزه الإسلام على الجاهلية، اجتاح موكبه جزيرة العرب كلها، فدمّر جاهليتها، ثم طفق يجتاح أكبر جاهليتين يومذاك في العالم، ويتجاوزهما إلى اجتياح جاهليات أخرى، حتى ركز ألويته على مشارف الصين شرقاً وجبال الأندلس غرباً، ولولا هذا التفوق الروحي الساحق، ما وقعت تلك الخارقة العجيبة، خارقة ذلك الاجتياح التي لم يعرف لها نظير لا في القديم ولا في الحديث، ولا حتى في الاكتساحات العسكرية المشهورة كزحف الإسكندر، وزحف التتار، والزحف الهتلري، وغير ذلك من الزحوف المشهورة، ذلك أن الفتح الإسلامي لم يكن عملاً عسكرياً فحسب، بل كان اكتساح عقيدة وثقافة، ومدنية وحضارة، كان اكتساحاً في القيم والمثل، والموازين والمقاييس، والعادات والأنظمة. وهذا هو السر في خلوده وبقائه، بينما انحسرت الموجات غير الإسلامية وتآكلت، بل ربما أدى بها الأمر في النهاية إلى الانضواء تحت مظلة حضارات وعقائد غلبتها مادياً، كما حدث للتتار الذين هزموا المسلمين، لكن عقيدة الإسلام ما لبثت أن غلبتهم فإذا بهم يسلمون.
لقد كان ذلك الاجتياح الإسلامي الذي اكتسح الأمم الأخرى، مظهراً من مظاهر التفوق الروحي الساحق للمسلمين ونتيجة له. وإذا كان انتصار المسلمين ينهض دليلاً يشهد بفكرة التفوق الروحي ونتائجه؛ فإن انهزام المسلمين ينهض هو الآخر دليلاً على صحة الفكرة نفسها، ذلك أن المسلمين هُزموا في معارك كثيرة كانوا فيها أقوى من العدو، عدداً وعدة، لأنهم كانوا مهزومين في داخل نفوسهم، فكانوا في حالة من الضعف الروحي بدل التفوق.
كان التفوق الروحي للمسلمين تفوقاً إنسانياً كاملاً، بمعنى أن خصائص الإنسان المسلم التي يمتاز بها عن كل مخلوق آخر، أرقى وأعظم من خصائص الإنسان غير المسلم، لذلك كان هذا التفوق، ميلاد إنسان جديد يختلف عمّا ألفته البشرية وعرفته في أحقابها المختلفة، إذ كان من التميز والاستقلال، والتفرد والأصالة، والترفع عن الدنايا والسفاسف والصغائر، واستشراف آفاق النبل والنفع والحق والصدق وما إلى ذلك من مكرمات بحيث ليس له نظير أو شبيه، فكان أن صبغ هذا الإنسانُ الجديد، كل البلاد التي غمرها زحفه الميمون بصبغته، وترك عليها ميسمه الخاص، وطابعه الذاتي، وعلامته المسجلة التي لا يخطئ أن يراها كل من عرف تصور هذا الدين ونظرته العامة للكون والحياة والإنسان.
وبسبب تفوقه الروحي الضخم؛ اقتلع المسلم في زحفه المبارك حضارات عريقة جداً في البلدان التي اقتحمها، حضارة الفراعنة والأقباط في مصر، والآشوريين والبابليين والساسانيين في العراق، والفينيقيين والسريان والروم في الشام، لأنه أعمق جذوراً في الفطرة البشرية، وأصدق في إقامة مجتمع العدل، وإقرار الحق والمساواة، ولأنه كان إلى جانب ذلك، تحمله تلك النماذج البشرية العملاقة التي لا مثيل لها قط، والتي امتلكت ذلك التفوق الروحي الساحق.
ولكنْ؛ هل نريد من ذلك أن نقلل من شأن الإعداد المادي وننتقص منه؟ لا، يأبى علينا ذلك ديننا الذي يقول لنا آمراً "وَأَعِدُّوا"، والذي يريد منا أن نكون المتفوقين، على جميع الناس في كل الميادين. ولكننا نريد أن نؤكد أننا نحن -المسلمين- مفتاح تفوقنا في كل شيء هو التفوق الروحي، فحين تتحرر الروح وتسمو، وتكون في إطار الصحة والإيجابية كما يريدها الإسلام، تأتي جميع مناحي التفوق الأخرى تبعاً لذلك من عمران واقتصاد وانتصار. وإذن فلتكن هذه بداية طريقنا، ونحن أمة تصحو وتحاول أن تتلمس معالم الطريق، حتى لا تظل تضرب في التيه، وتعدو وراء السراب والأوهام.
وسوم: العدد 957