إذا لم تكن كالأبطال

كثيراً ما استوقفتني كلمة سعد بن معاذ رضي الله عنه وهو يصف عظيم البلاء والفداء والتضحية التي أبداها أنس بن النضر رضي الله عنه في غزوة أحد. قال سعد: فما استطعتُ يا رسول الله ما صَنَعَ... فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة بالسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، ووجدناه قد قُتل وقد مَثّلَ به المشركون، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه (أي أطراف أصابعه).

نعم، استوقفني اعتراف سعد بأن ما بَلَغَه أنس من ضروب الشجاعة والإقدام، لا يستطعيه سعد. وقد نرى هذا الاعتراف أمراً بسيطاً، لكن الواقع يشهد أن كثيراً منا يجد أناساً بلغوا من المكارم وجوانب التفوق في مجال الشجاعة أو مجال الكرم أو نبوغ الفكر أو الفقه... شأناً عظيماً لا يستطيع هو أن يبلغه، ويضيق صدره أن يعترف لهم بالفضل، فتراه يغمز بهم ويطعن، ويقلل من شأنهم... حسداً منه أن لم يكن مثلهم!.

إنه الحسد يأكل قلبه، فقد قعدت به همّته الفاترة عن بلوغ الذروة، فراح يطعن بمن بلغوها. فهو كالذين قال فيهم أبو الأسود الدؤلي:

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه     فالقومُ أعداءٌ له وخُصومُ

كضرائر الحســناء قُلنَ لوجهها     حســداً وبغيـاً: إنه لدميـــمُ

لقد تفاوتت قدرات البشر ومواهبهم وهممهم... فمَن ذا الذي بَلَغَ من الصبر والثبات على الإيمان كالذي بَلَغَه بلال بن رباح؟ ومَن ذا الذي بلغ من الشجاعة ما بلغه علي بن أبي طالب؟ ومن بلغ من الفقه ما بلغه أبو حنيفة والشافعي؟ ومن بلغ من الصدع بالحق ما بلغه سعيد بن جبير وسفيان الثوري وطاووس بن كيسان والعز بن عبد السلام وابن تيمية وسيّد قطب وموفق سيرجية...؟.

لقد كان سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو الذي جمع الفضائل والمكارم كلها، في أعلى ذراها، وجاء أصحابه فاقتدوا به كل بما حباه الله، وبقي الخير في أمته إلى يوم القيامة، فترى في كل جيل مَن يجسّد بعض الفضائل بقدرِ وُسْعِه. ويبقى سائر الناس دون تلك القمم السامقة، لكن الحصيف منهم من يُكْبِر أصحاب القمم، ويعرف لهم فضلهم، ويبقى أصحاب النفوس الضعيفة الذين قعدت بهم هممهم عن الصعود إلى القمة، وصَغُرت عن الاعتراف لأهل الفضل بفضلهم، فاختاروا الطريق السهل: يقعدون ثم يطعنون بأولئك الصاعدين.

ومن الجميل أن نذكر أمثلةً ممن كانوا نماذج في أحد جوانب العظمة التي حضّ عليها الإسلام. إنه الصدع بكلمة الحق.

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: "أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر". رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن.

وعنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: "لا يمنعنَّ أحدَكم مخافةُ الناس أن يقول بالحق إذا شهده أو علمه". رواه أحمد والترمذي وابن ماجه.

وعن جابر رضي الله عنه، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: "سيّد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمَرَه ونهاه فقتله". رواه الحاكم وصحّحه.

وهذا الإمام الفقيه المحدث سفيان الثوري يلقى أبا جعفر المنصور، فيقول له المنصور: عِظني! فيقول: وما عملتَ فيما علمتَ فأعظكَ فيما جهلت؟ فقال: فما يمنعك أن تأتينا؟ قال: إن الله نهى عنكم، حيث قال عزّ وجلّ: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتَمَسّكم النار). فالتفتَ المنصورُ إلى أصحابه فقال: ألقينا الحَبَّ إلى العلماء فلقطوا إلا ما كان من سفيان!. [من كتاب تهذيب التهذيب].

وقصة سعيد بن جبير، أحد سادة التابعين، مع الحجاج بن يوسف أشهر من أن تُنسى!.

وكذلك موقف التابعي الفقيه طاووس بن كيسان عندما دخل على هشام بن عبد الملك، الخليفة الأموي، فخلع نعليه بحاشية البساط وجلس إلى جانبه، وخاطبه باسمه: يا هشام... فلما قال هشام: عظني، قال: إني سمعتُ أمير المؤمنين عليّاً رضي الله عنه يقول: إن في جهنم حيّات كالقِلال، وعقارب كالبغال، تلدغ كل أمير لا يعدل في رعيته. [من كتاب شذرات الذهب لابن عماد الحنبلي. ج2، ص46].

وأخبار هؤلاء الرجال الذين ملأ الإيمان قلوبهم، تملأ صحف التاريخ. ونسأل الله أن يُعيننا على الاقتداء بهم فيما وصلوا إليه، وأن نقتفي أثر النبي صلّى الله عليه وسلّم وسيرته الغرّاء.

وسوم: العدد 958