فَلْيَسْلَم مِنكَ المُسلمون
ذكرَ الإمام ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية"، عند ترجمة قاضي البصرة، الذي يُضرَب بذكائه المَثَل: إياس بن معاوية المزني (46 – 122ه)، عن أحد تلامذته أنه قال: ذكرتُ رجلاً من المسلمين بسوءٍ عند القاضي إياس، فنظر فيّ وقال: أغزوتَ الروم؟ قلت: لا. قال: أغزوتَ السند والترك؟ قلت: لا. قال: أفَيَسلَمُ منك الروم والسند والترك، ولا يسلم منك أخوك المسلم؟!.
إنها لفتة تربوية كريمة، تذكّرنا بهدي النبوة أولاً، وبواقع المسلمين اليوم ثانياً.
أما هدي النبوة فذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: "المسلم مَن سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده". رواه أحمد والشيخان والترمذي والنسائي. فأنت ترى أن سلامة المسلمين من لسان أخيهم ويده، وَصْف لازم لأخيهم هذا، لا يكاد من دونه يستحق اسم المسلم، أو يتحقق فيه الانتماء إلى الإسلام.
ولا عجب، فالمسلمون المؤمنون كالجسد الواحد، وكيف يبغي بعضُ هذا الجسد على بعض؟ وكيف يعتدي عضوٌ منه على عضو آخر؟. إنّ أيّ اعتداء من المسلم على المسلم حرام، وكما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "كلُّ المسلم على المسلم حرام، دمُه وعِرضُه ومالُه. حَسبُ امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم". رواه أبو داود والترمذي.
وإذا تأمّلتَ في قول الله تعالى: (ولا يغتبْ بعضُكم بعضاً)، والغيبة اعتداءٌ على سمعة المسلم، أي عِرضه.. وجدتَ التعبير عجيباً في الدلالة على ارتباط المسلمين ووحدتهم وانتمائهم إلى جسد واحد، فالذين يغتابون أحداً من المسلمين إنما يغتابون "بعضهم".
وأوضحُ من هذا، أن الله تعالى عندما نهى عن "اللمز"، وهو الطعن باللسان والإشارة بالعين ونحوه، قال: (ولا تلمزوا أنفسَكم). قال المُفسّرون: أي لا يَعِب بعضكم بعضاً، فإن المؤمنين كنفس واحدة، فمتى عاب المؤمن مؤمناً فكأنما عاب نفسه.
وأما واقع المسلمين اليوم فانظر إليهم في مشارق الأرض ومغاربها، ابدأ ببلدنا سورية، وانتقل ببصرك إلى أي جهة شئت، ولتصل إلى كشمير والهند والفلبين، وإلى البوسنة والهرسك، وإلى شمال إفريقيا ووسطها... لتجدَ الحروب تُشَنّ على المسلمين ألواناً، بدءاً من حرب الإشاعة والتضليل والتزييف، إلى حرب الإغراء وغرس العملاء وشراء الذمم، إلى إقصاء الشريعة عن ميادين الحياة ونشاطاتها، ووصولاً إلى التجويع والحصار والسجن والتشريد واستباحة الأعراض والأموال وإزهاق الأرواح والذبح بالسكين والقتل بالرصاص...
فإذا تململ الموجوع، أو تضجّر المظلوم، أو رفع المقهور صوته في وجه الطاغية، أو مدّ يداً ليدفع السكين عن عنقه... كان ذلك جرماً يحاسَب عليه، وجنايةً تقتضي المزيد من الاضطهاد له، وكان أصولياً متطرفاً، وإرهابياً متعطشاً للدماء، ورجعياً واستعمارياً و...
وحقيق بهذه المحنة التي شملت العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، وتغلغلت في أنحاء المجتمع وزواياه، أن توحد قلوب المسلمين، وتجمعها على قلب واحد، وتعيدها إلى الله تعالى، وتُحيي فيها التقوى، وتبعثها على جهاد العدو، وتثير فيها معاني الحب والرحمة والرأفة، وتجعلها تتمثل قول الله تعالى في وصف عباده المَرْضيين: (أشدّاءُ على الكفّار، رحماءُ بينهم)، وقوله: (أذلّةٍ على المؤمنين، أعزّة على الكافرين).
لذلك يبدو شأن كثير من المسلمين غريباً كئيباً: يتسقّطون زلّات بعضهم بعضاً، ويتتبعون عوراتهم، ويُسيئون الظن بهم، ويَسلُقونهم بألسنةٍ حِداد، ويَجْهدون في كيدهم وحربهم، ويسوّغون كل أسباب الخلاف والشقاق والخصومة معهم... ويَدَعون العدو ينهش فيهم، ويسطو على الأرض والعرض، ويُهلك الحرثَ والنسل.
أيَسلَمُ الأعداء من يد المسلم ولسانه، ولا يسلم المسلمون؟!!.
وسوم: العدد 962