قوة السلطة لا تسلّط القوة… هذا ما تحتاجه المجتمعات
“إن الله ليزع بالسلطان أكثر مما يزع بالقرآن”، قولٌ مأثور صحيح المعنى، يتفق مع ما ذكره ابن خلدون في تاريخه، من أن الاجتماع إذا حصل للبشر، وتمّ عمران العالم بهم، فلا بدّ من وازع يدفع بعضهم عن بعض، فيكون ذلك الوازع واحدا منهم يكون له عليهم الغلبة والسلطان واليد القاهرة، حتّى لا يصل أحد إلى غيره بعدوان وهذا هو معنى الملك.
وبما أن ابن خلدون أحد الذين سُقوا من معين الإمام الماوردي، فحتما ستجد هذا المعنى ضمن الإرث الفكري والفقهي للأخير، خاصة في كتابه “أدب الدنيا والدين”، الذي تحدث فيه عن أسباب صلاح أحوال المجتمعات ونهضتها، من خلال قواعده الست التي وضعها في هذا الشأن.
تناولنا الأولى منها في المقالة الفائتة وكانت “دينٌ مُتّبع”، ثم ها هي الثانية من قواعد الماوردي تطل علينا في هذه السطور وهي: “سُلْطَانٌ قَاهِرٌ تَتَأَلَّفُ مِنْ رَهْبَتِهِ الْأَهْوَاءُ الْمُخْتَلِفَةُ، وَتَجْتَمِعُ لِهَيْبَتِهِ الْقُلُوبُ الْمُتَفَرِّقَةُ، وَتَكُفُّ بِسَطْوَتِهِ الْأَيْدِي الْمُتَغَالِبَةُ، وَتَمْتَنِعُ مِنْ خَوْفِهِ النُّفُوسُ الْعَادِيَةُ؛ لِأَنَّ فِي طِبَاعِ النَّاسِ مِنْ حُبِّ الْمُغَالَبَةِ عَلَى مَا آثَرُوهُ وَالْقَهْرِ لِمَنْ عَانَدُوهُ، مَا لَا يَنْكَفُّونَ عَنْهُ إلَّا بِمَانِعٍ قَوِيٍّ، وَرَادِعٍ مَلِيٍّ”. ربما يتبادر إلى الذهن عند مطالعة هذه القاعدة “سلطان قاهر”، أنها تكريس للاستبداد والقمع، لكن مقصود الماوردي، بلا ريب، هو الحزم، أو القوة التي هي أحد المعيارين في تقييم الأشخاص (إن خير من استأجرت القوي الأمين)، أو بمعنى آخر قوة السلطة، لا تسلط القوة، قوة القانون، لا قانون القوة، وبرهان ذلك تجده مبثوثا في مواضع أخرى من الكتاب، وفي كتبه الأخرى كذلك، عندما يؤكد على لزوم العدل للحاكم.
وها هو يؤكد في كتابه “الدنيا والدين” على أن يكون الحاكم ذا دين بعيدا عن الظلم والإفساد فيقول: السُّلْطَانَ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى دِينٍ تَجْتَمِعُ بِهِ الْقُلُوبُ حَتَّى يَرَى أَهْلُهُ الطَّاعَةَ فِيهِ فَرْضًا، وَالتَّنَاصُرَ عَلَيْهِ حَتْمًا، لَمْ يَكُنْ لِلسُّلْطَانِ لُبْثٌ وَلَا لِأَيَّامِهِ صَفْوٌ، وَكَانَ سُلْطَانَ قَهْرٍ، وَمَفْسَدَةَ دَهْرٍ”.
ومبعث رؤية الماوردي لهذه القاعدة، لا ينطلق فحسب من نظرة الفقيه السياسي الاجتماعي الخبير بالسياسة الشرعية، وإنما هو قد استدل بالتجارب الواقعية على لزوم هذا العنصر لصلاح المجتمعات، وقد سرد الدكتور صلاح الدين بسيوني رسلان في كتابه “الفكر السياسي عند الماوردي”، الظروف التي ولد ونشأ فيها الماوردي إبان الخلافة العباسية، ففي عصره كثرت إساءة معاملة البويهيين للخلفاء، حتى إن أمراءهم كانوا يُذكرون مع الخليفة رأسا برأس، ووقعت فتن كبرى في عهده بين السنة والشيعة، وأخرى بين الأشاعرة والحنابلة، وفتنة أخرى بين المسيحيين والهاشميين، ومصادمات بين الأتراك والديلم، وبين الأتراك والهاشميين، وازداد نفوذ الباطنية والدعوة الفاطمية في العراق، وتفشى الشغب والعصيان بين الجند، كل هذه الظروف الصعبة من الانفلات، جعلت الماوردي يدرك بجلاء أهمية السلطة القوية في صلاح أمور المجتمعات، حتى لا تذهب بها الأهواء والصراعات. هذه الرؤية لا تختلف عما ذكره الفيلسوف والفقيه أبو حامد الغزالي في كتابه “الاقتصاد في الاعتقاد”، حيث ذكر إن الخلق على اختلاف طبقاتهم، وما هم عليه من تشتت الأهواء، وتباين الآراء، لو لم يكن هناك رأي مطاع يجمع شتاتهم لهلكوا من عند آخرهم، وهذا داء لا علاج له إلا بسلطان قاهر مطاع يجمع شتات الآراء.
بل إن فلاسفة الغرب أنفسهم على قناعة بأهمية السلطة القاهرة أو قوة السلطة للمجتمعات، فحتى الفيلسوف والمفكر السياسي الإنكليزي جون لوك، الذي جعل العقل هو الموجه لإقامة النظام والسلطة، رأى حتمية وجود “قوة إكراهية” تحدد نوع العقاب وتطبقه على الشخص الذي يعتدي على آخر، من دون أن تترك ذلك لاجتهاد الشخص وحده فيسرف في العقاب، وهو بهذا يشترك مع الماوردي في لزوم وجود سلطة قوية في المجتمع.
وأول مقومات قوة السلطة التي عناها الماوردي، هي أن تكون مستمدة من سلطان الأمة، فالحاكم في حقيقته موظف لدى الشعب، يقوم على مصالحه، وله على الناس حق الطاعة في غير مخالفة.
ثم تنبع قوة السلطة من قيامها بواجباتها تجاه الرعية، وهي سبعة أمور كما ذكرها الماوردي، الأول، حفظ الدين من تبديل فيه، والحث على العمل به من غير إهمال له، والثاني: حراسة البيضة والذب عن الأمة من عدو في الدين أو باغي نفس أو مال، والثالث: عمارة البلدان باعتماد مصالحها، وتهذيب سبلها ومسالكها، والرابع: تقدير ما يتولاه من الأموال بسنن الدين من غير تحريف في أخذها وإعطائها، والخامس: معاناة المظالم والأحكام بالتسوية بين أهلها واعتماد النصفة في فصلها، والسادس: إقامة الحدود على مستحقها من غير تجاوز فيها، ولا تقصير عنها، والسابع: اختيار خلفائه في الأمور أن يكونوا من أهل الكفاية فيها، والأمانة عليها.
إن السلطة التي لا تقوم بواجباتها تصبح مجرد صورة، تصير منصبا استبداديا يحرك كوامن التمرد، ويثير النزعات البشرية الثورية، ويُفقد الجماهير الدافع الذاتي لدعم الحاكم، ومن ثم تتعطل القدرات وتهدر الطاقات، ويتملك الناس شعور بأنهم عبيد لدى السلطة لا أصحاب أرض وثروات.
إن ما ذكره الماوردي من التأكيد على أهمية قوة السلطة وتوفر القوة فيمن يمسك زمام الأمور، ليس من أجل القهر ذاته أو السلطة نفسها، ولا لإقرار طبيعة الملك، وإنما من أجل تأمين المعاش للناس وحمايتهم وتوفير الأمن والاستقرار لهم، ولذلك لا يذكر هذه القوة مجردة، بل يقرنها بالمسؤولية التي تتمثل في واجبات الحاكم تجاه المحكوم. قوة السلطة لدى الماوردي تقع في موقع مقابلة وتضاد مع فلسفة ميكيافيللي، التي سلخت الأخلاق عن السياسة، وانبنت على أن القسوة والبطش هي الأولى للحاكم لا الرأفة والرحمة، وأنه في سبيل الحفاظ على عرشه يتاح له كل شيء، وإن تضمن العسف والقهر والعنت والقمع، وعنده (أي مكيافيللي) أن الرحمة والرأفة تؤديان إلى الفوضى، ولذا ليس غريبا أن يكون مثلا أعلى لأشد حكام التاريخ المعاصر استبدادا وقسوة، كموسيليني الذي كان دائم الاستشهاد بمكيافيللي، وهتلر الذي قالها صراحة إنه لا يعترف بقانون أخلاقي في مسائل السياسة. إن خلاصة ما ينبغي ذكره في قوة السلطة وماهيتها واختلافها عن الاستبداد والتسلط بالقوة، ما أصّله أمير المؤمنين عمر، عندما قال إنه لا يصلح لهذا الأمر إلا القوي فِي غير عنف، الليّن فِي غير ضعف، الجواد فِي غير سرف، الممسك فِي غير بخل.
من هنا ندرك أن ما يتعمده الحكام المستبدون من بطش وعسف وقمع للشعوب، لا ينم عن قوة، بل هو مسلك سيكوباثي، تأثرا بوساوس سلب العروش، أشبه بما حدث مع فرعون موسى الذي أصابه الهوس والوسواس بنبوءة الغلام، الذي يخرج من بني إسرائيل يكون هلاكه على يده، فمن ثم أمر بذبح كل مولودٍ ذكرٍ فيهم، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وسوم: العدد 962