ولادة الرسول.. ولادة أمة وحضارة
كانت ولادته صلى الله عليه وسلم في أواخر القرن السادس الميلادي، وكانت بعثته الشريفة في أوائل القرن السابع. بُعِثَ محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة، فأَرْسَلَ بإذن ربّه وأَمْرِه صيحةً خالدةً زهراء، كلها هدى ونور، صيحة معطرة بالطيب، مضمّخة بالشذا، هتف بها على جبل الصفا بمكة المكرمة، فإذا بها تشرّق وتغرّب، وتدوّي بها الدنيا، تناقلتها الجبال، وهتفت بها السهول، وحملتها الصحراء على رمالها، والبحار والمحيطات على أثباجها.
لقد كانت "لا إله إلا الله، محمد رسول الله" خلاصة الدعوة الجديدة، وشعار الصيحة الزهراء التي أُعلِنت أول ما أُعلِنت على جبل الصفا بمكة المكرمة، وهذا الشعار قليل الكلمات، شديد الإيجاز، معدود الحروف، لكنه كان يحمل في ثناياه وأبعاده ومراميه، عالماً عجيباً خصيباً، متنوعاً غنياً، من الحقائق والمبادئ، والأفكار والمفاهيم، والمُثُل والقيم، كلها تُعلي من شأن الفرد، وكلها ترفع من مكانته، ذلك أنها تنظر إليه على أنه خليفة الله تعالى على أرضه، وتحقق له درب السعادتين، سعادة الدنيا وسعادة الآخرة، وترسم له الطريق الواضحة البيّنة لذلك، أبين من الشمس في رابعة النهار، معالمها واضحة، وخصائصها جلية، وسماتها ناصعة.
لقد كان من معاني تلك الصيحة الزهراء وما زال، أن الإنسان هو أثمن عناصر الوجود، وأنفسها على الإطلاق دون استثناء، وهذا الإنسان الذي يحتل من عناية السماء والأنبياء؛ هذه المنزلة العظيمة الرائعة.. ليس ذرةً في الكون تائهة، ولا فلتةً في الحياة عابرة، ولا مجرَّد صُدْفَةٍ ليس لها مكانها المحدد ودورها المرسوم، ولا صَدَفَةً تافهةً على شاطئ الحياة، لا قيمة لها ولا مقدار، سواءً من حيث المنبت والمنشأ، وسواءً من حيث المهمة والغاية، وسواءً من حيث المآل والمصير.
ففي التصوّر الإسلامي أنه ليس هناك شيء قط في هذا الكون الضخم الواسع؛ اسمه الصُّدفة، بل كل شيء بقدر وميزان، وعناية وتدبير، وضبط وإحكام، وأن الحياة ليست لهواً ولا عبثاً، بل ثمة تكليف ومسؤولية، ورسالة وبلاغ، ومهمة وأمانة، وثمة من بعدُ جزاء وحساب، ثم مآلٌ أخير في جنة أو نار.
ولقد كان مما فعلته تلك الصيحة وما تزال، هو إحداث نُقْلَةٍ ضخمة في حياة الناس، سدّدت إلى الشرور بأنواعها هزيمة مريرة، فما من ريب في أن أسس الحياة الجاهلية، وأعمدة الجور والبغي والعدوان، ودعائم الإثم والخطيئة والغرور، ودنيا المفاسد والشرور، لم تتزلزل بشيء قط، كما تزلزلت بتلكم الصيحة الخالدة الزهراء التي هتف بها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وهو وحيد منفرد، مجرد من القوى المادية، ينذر قومه على جبل الصفا بمكة المكرمة.
لقد أحلّت هذه الصيحة الخالدة الغرّاء، بصنوف الشرور جميعاً هزيمة منكرة، وضربتها ضربة موجعة أصابت كبد إبليس، فظل ينزف دماً، وصديد كلوم عميقة غائرة وما يزال.
لقد كان من معاني تلكم الصيحة الطاهرة الربانية، العظيمة الخالدة أن الحياة ليست أَجَمَةً برية موحشة، ولا غابة ليس لها قانون ونظام، ولا ساحة مهملة، يصطرع فيها الناس ويقتتلون، ويعدو فيها القوي على الضعيف، والكبير على الصغير، والقادر على العاجز، تُرِكَتْ هكذا من بعد أن خُلِقَتْ، بل حديقة منسّقة، كل شيء فيها بعناية وترتيب، وغرستها عناية الله عز وجل، وقدرته الطليقة من كل قيد، وتعهّدت تهذيبها وإصلاحها بالفطر الكريمة الخيّرة، والرسالات الهادية النيّرة، وجعلت الإنسان ريحانتها الطاهرة النفيسة، وكرّمته غاية التكريم.
ورحمة الله عز وجل، أعظم وأكرم وأوسع من أن تترك هذه الريحانة، تذبل وتصوّح، وتدوسها الأقدام، وتعدو عليها الوحوش، وتخطفها الطيور، وتهوي بها الريح في مكان سحيق، وتستبد به الحيرة والضلال. لذلك كانت العناية الإلهية تتعهد هذه الريحانة، وتمدها بالعون، وتقدم لها الغوث والرحمة والهداية، وتأخذ بها إلى سواء السبيل، فتأتي رسالات السماء، يتنزّل بها الوحي الأمين، لتقودها إلى درب سعادتيها في الدنيا والآخرة.
لقد كان من عطاء تلكم الصيحة الزهراء، الوضيئة المتألقة، التي هتف بها على جبل الصفا بمكة المكرمة، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وهداياها الكثيرة الكبيرة أنْ بدأت إرهاصات حضارة عملاقة ضخمة، يبنيها المسلمون، هي أكرم وأنبل وأشرف من حيث الغايات، ومن حيث الوسائل، ومن حيث الخصائص والسمات، وعلى مستوى المبادئ النظرية، وعلى مستوى التطبيق العملي، من كل حضارة أخرى شهدها الإنسان، منذ كان كونٌ، ومنذ كانت حياة.
ولم يمر وقت طويل عقب تلكم الصيحة الربانية، الوضيئة الزهراء، حتى كانت الحضارة الإسلامية، عَبْرَ أربع خلافات مسلمة كريمة: الراشدة والأموية والعباسية والعثمانية، تثبت وجودها الفعال في دمشق وبغداد، وقرطبة والقاهرة، والمغرب والأندلس، والهند والقسطنطينية، وغيرها من حواضر الإسلام المجيدة.
وسوم: العدد 962