اعرف الحق تعرف أهله
يقول سيدنا أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: "اعرف الحق تعرفْ أهله."
والفعل "تعرفْ" مجزوم بجواب الطلب، أي أن معرفة الحق مقدمة، ومدخل لمعرفة أهله. وما أنضرها وأجملها وأصوابها من عبارة دالة على أهل الحق بأقصر وألطف طريق. وجاء في مقدمة هذا القول حسب بعض الروايات: "لا يُعرف الحق بالرجال، ولكن يُعرف الرجالُ بالحق، اعرف الحق تعرف أهله"
والمعنى المباشر للعبارة أن الحق ليس الذي يقوله أخي أو أبي أو شيخ عشيرتنا أو مختار حينا، أو زعيم حزبنا، أو فقيه مسجدنا أو مذهبنا؛ بحيثية أن واحدا من هؤلاء قاله، بل أحقية الحق في قول الحق، إنما هي كامنة فيه، كائنا من كان قد تلفظ به أو ادعاه ...
ولتقريب مفهوم هذه الحقيقة الذهبية، التي يجب أن تظل تلازم رؤيتنا واجتهاداتنا واختياراتنا ومواقفنا، في كل شؤون حياتنا، أننا قبل أن نطلق الأحكام فنختلف، يجب أن نتفق على معايير الحقائق الشرعية أو العلمية أو الكونية المجردة. ثم نقيس بالمقياس، ونعاير بالمعيار ثم نحكم. في قضايا الشريعة كنا نحفظ: وزن بميزان الشرع كل خاطر...في الأحكام الشرعية لا نحكم بأعجبني، وراق لي، ومال قلبي إليه؛ وإنما نحكم بقال الله قال رسوله..
في عالم الأبعاد نقيس بالأميال أو الباع أو الذراع، في عالم الأثقال نقيس بالأوزان. في العالم المكيول نقيس بالقنطار أو المد أو الصاع. وقبل أن نحكم أن زيدا طويل. وعمرا قصير. يجب أن نتفق ما مقياس الطويل، وما هو مقياس القصير؟؟ ثم نقيس بهذا المقياس الحقائق والأشخاص والأشياء، فنصدر عليها الأحكام بغير اختلاف.
نتفق - مثلا- أن الطويل من الرجال من بلغ طوله ثلاثة أو أربعة أذرع. وأن القصير منهم ومن قصر عن الذراعين. ونتفق قبلا على طول الذراع. في المعايير الطولية، وعلى معيار الكثرة، في المعاييرة المكيولة، وعلى معيار الثقيل في المعايير الموزونة . وعلى حقيقة الصدق والكذب في المعايير القيمية,,
ونتفق هل نستطيع أن نطلق وصف "الكاذب" بدلالته الأخلاقية، على رجل سألناه كم الساعة، فأجابنا حسب ساعته، وهو لا يدري أن في ساعته خللا..!! هل نستطيع أن نطلق وصف الكاذب بدلالته الكذب الأخلاقية، على رجل قال لآخر سمعت فلان يذكرك بخير، وهو يريد أن يصلح بينهما .. ؟؟
ثم بعد التمكن من كل هذا سيسهل علينا أن نصدر الأحكام فلا نختلف، ولا يكون بيننا مدخل لشيطان الاختلاف. بعض الناس يدعون إلى الصلاة الجامعة ومن حولهم لا يكادون يتفقون على شرق أو غرب، ولا يعلمون أين هو شطر البيت الحرام!!
اعرف الحق، المجرد. بعيدا عن الالتباس بمن تحب وتكره، ، وبمن تأنس وتجفو ..فحيثما كنت كان معك المقياس النيّر، الذي تخضع له، ولا تُخضعه لهواك.
اعرف الحق تعرف أهله:
امتلك المقياس الأولي للحق والباطل. والخطأ والصواب. والجميل والقبيح. اجعل لكل علومك معيارا تفيء إليها، وتنطلق منها، وتنزل على حكمها. فمعرفة الحق من الباطل، وتمييز الخير من الشر، ومعرفة المآلات إنما يكون بمعرفة قوانين الكينونة، ومعقبات الصيرورة. وتظل بعض الأمور ملتبسة على الناس. فلا يكاد بعضهم يصيب من صحيحها وسقيمها سهما.
وكان سيدنا علي رضي الله عنه أكثر من ابتلي بأصحاب قالة السوء، من الذين رفعوا فوق رأسه عبارة "لا حكم إلا لله" وسلبوا بها ألباب بعض الأغمار، فرد عليهم بكلمته المشهورة رضي الله عنه" كلمة حق أريد بها باطل".
وقطع عليه صلاته وهو يؤم الناس في صلاة الفجر أحد الخوارج، فقرأ الخارجي (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) فاستمع إليه سيدنا علي ثم رد عليه وهو في الصلاة (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ).
نوران لا بد للإنسان منهما لمعرفة الحق ومن ثم معرفة أهله. نور البصر ، ونور البصيرة. والمعصوم من عصمه الله تبارك وتعالى.
وسوم: العدد 964