فرصة للحرية والاستبداد في تونس

عبد الرحمن يوسف القرضاوي

تعتمد الأنظمة الشمولية على إذابة جميع الأفراد والمؤسسات والجماعات في شخص واحد، وذلك - بالطبع - عن طريق العنف والإرهاب.

يكون هذا الشخص في العادة شخصية "كاريزمية"، لها قدرات استثنائية في التأثير على الجماهير، ولها أيضا قدرات في صناعة التنظيمات، ووضع الخطط، وتنفيذها.. أو هكذا يفترض، فهكذا كان هتلر في ألمانيا، وموسوليني في إيطاليا، وسالازار في البرتغال.. وغيرهم.

الأنظمة من هذا النوع جوهرها رفض مبدأ "الفصل بين السلطات"، فتصبح الدولة مجرد عصا في يد الزعيم، يضرب بها رأس من يشاء، ويربت بها على كتف من يشاء، وله فيها مآرب أخرى!

ولا شك أن أي اختلاف مع الزعيم في الأنظمة الشمولية معناه الخيانة، فالزعيم هو المفسر الوحيد لما يختلف فيه، وهو المرجعية العليا للمصلحة الوطنية، وهو القادر وحده لا شريك له على التعبير عن إرادة الأمة.

ترى الزعيم المزعوم ينفذ ما في رأسه من خزعبلات متشدقا بأن تلك إرادة الجماهير، فهو يشعر بمطالب الشعب، ويحول تلك المطالب إلى قرارات نافذة، وقوانين ناجزة، مهما كانت هذه القرارات والقوانين مؤذية للسواد الأعظم من الناس

النظام الشمولي دائما يدّعي شرعية مستحقة من الشعب، فهو يزعم أن الجماهير العريضة ترتضيه، وأنها فوضته للتحدث باسمها، وبالبطش لحمايتها.

لذلك ترى الزعيم المزعوم ينفذ ما في رأسه من خزعبلات متشدقا بأن تلك إرادة الجماهير، فهو يشعر بمطالب الشعب، ويحول تلك المطالب إلى قرارات نافذة، وقوانين ناجزة، مهما كانت هذه القرارات والقوانين مؤذية للسواد الأعظم من الناس.

الزعيم في الأنظمة الشمولية يلعب على مشاعر الغوغاء، وغرائز القطيع، فيتكون "رأي عام" يرى ما يراه، ويرفض ما يرفضه. هذا "الرأي العام" يكون زائفا، ولكن قدرات الدولة على تزييف الواقع تسانده، حتى يأتي يوم انهيار النظام، وحينها يتضح كم كان هذا البنيان الشامخ مستندا إلى أوهام.

* * *

هذا ما يحاول أن يفعله الرئيس التونسي "قيس سعيّد".. يحاول أن يخلق نظاما شموليا يصبح فيه زعيما أوحد .. يحاول أن يلغي السلطات الثلاث، وأن يتخطى الدستور، وأن يكتب دستورا جديدا بلا أي رقابة، وهو يزعم أثناء كل ذلك أنه يمثل إرادة الشعب.. ولكن تقف ضده ظروف وموانع كثيرة، أهمها شخصيته!

"قيس سعيّد".. يحاول أن يخلق نظاما شموليا يصبح فيه زعيما أوحدا.. يحاول أن يلغي السلطات الثلاث، وأن يتخطى الدستور، وأن يكتب دستورا جديدا بلا أي رقابة، وهو يزعم أثناء كل ذلك أنه يمثل إرادة الشعب.. ولكن تقف ضده ظروف وموانع كثيرة

فهو شخص لا يملك أي قدرات على التأثير على الجماهير، كما أنه لا يملك أي قدرات على خلق التنظيمات. بل إنه لا يملك أي قدرات إدارية تمكنه من إدارة مؤسسات الدولة التي تقع تحت يديه بالفعل.

والأسوأ من كل ذلك أنه غير قادر على خلق أي شكل من أشكال التحالفات السياسية التي تؤمّن له ظهيرا شعبيا مؤقتا يتيح له فرصة الإمساك بصولجان السلطة، فهو قد بدأ انقلابه بتأييد طائفة من التونسيين (على اختلاف أغراضهم من تأييده)، واليوم لا يكاد يقف معه أحد، لا من الشرفاء المخدوعين، ولا من الانتهازيين المأجورين.. الشرفاء أفاقوا وأدركوا حجم الجريمة التي يرتكبها، والانتهازيون فهموا أن هذا السير في ركاب رجل بهذا القدر من "الذكاء" حماقة عواقبها وخيمة.

إنه أشبه ما يكون بشخص بين يديه جهاز كمبيوتر.. ولكن لا يعرف كيفية استخدامه، إنه من عصر الأوراق والأقلام، بل لا نبالغ إذا قلنا إنه من عصر أوراق البردي، وأقلام الخوص!

وبرغم ذلك.. فإن هناك فرصة ذهبية لمزيد من الانتصار للحرية.. كما أن هناك فرصة ذهبية لعودة الاستبداد في تونس..

* * *

أما عن فرصة الحرية.. فلا شك أن الانتصار على هذا القابع في قصر قرطاج سيكون انتصارا للديمقراطية، وللشرعية، وللدستور الذي ارتضاه التونسيون.

الإطاحة بهذا الرجل عن طريق تحالف سياسي واع سيكون صفعة للاستبداد، ولأي محاولة لتكوين نظام شمولي، وهذا التحالف خطوة أخرى تبتعد بالدولة التونسية عن الديكتاتورية الفردية أو الجماعية

الإطاحة بهذا الرجل عن طريق تحالف سياسي واع سيكون صفعة للاستبداد، ولأي محاولة لتكوين نظام شمولي، وهذا التحالف خطوة أخرى تبتعد بالدولة التونسية عن الديكتاتورية الفردية أو الجماعية.

إن الإطاحة بقيس التي تعتبر انتصارا للحرية لا بد أن تكون بتحالف سياسي يتحيز للديمقراطية، ويتعالى على الاختلافات الأيديولوجية، وينظر لأفق المستقبل البعيد أكثر مما يعميه ضباب اللحظة الراهنة، وإذا نجح هذا التحالف في هذه المهمة فمن حقنا أن نتفاءل بمستقبل تونس.

والحقيقة أن الإطاحة بهذا الرجل ليست أمرا صعبا، بل هي أمر ممكن شريطة أن يتم الأمر بسرعة.. لأن فرصة الاستبداد في تونس بفضله سانحة.

* * *

أما فرصة الاستبداد.. فلا أقصد بها "قيس سعيّد" نفسه، فهو مشروع استبدادي فاشل، إذ لا يملك أي ملكة أو موهبة للقيادة، وفي الوقت نفسه لا يملك السلاح الذي يفرض به شخصه.

إن فرصة الاستبداد التي يخلقها وجود هذا الرجل في قرطاج تتجلى في أنه يعطي الذريعة المعتادة لمن يمسك السلاح في يديه لينقضّ على السلطة.

إن حالة الفوضى التي تسبب بها هذا الرجل حالة نموذجية لأي جنرال صاحب طموح، أو أي كولونيل مستأجر من محور الاستبداد.

يتشدق "قيس" ليل نهار بمؤامرات اغتيال تستهدفه، وما أسهل أن يستهدفه شخص يطمح في السلطة، وحينها سيكون المتهم الأول هو المعارضة التي اتهمها "قيس سعيّد" بالتخطيط لاغتياله، وبهذا يضرب المستبد الجديد عصفورين بحجر واحد، فيتخلص من الرئيس ومن معارضيه في الوقت نفسه!

ستكون تونس تحت قبضة ديكتاتورية جديدة، وسيكون الشعب في مواجهة مباشرة مع مستبد جديد، ولكنه هذه المرة لن يكون مستبدا أعزل أجوف تافها كقيس سعيّد، بل سيكون مستبدا يمسك السلاح في يديه، ويدعمه تحالف دولي إقليمي واسع

إن هذا الرجل بتصريحاته الهوجاء يعرض حياته للخطر، ويحول نفسه هدفا لرصاصات قناص يخدم محاولة استيلاء على الحكم.

لو حدث ذلك فستكون تونس تحت قبضة ديكتاتورية جديدة، وسيكون الشعب في مواجهة مباشرة مع مستبد جديد، ولكنه هذه المرة لن يكون مستبدا أعزل أجوف تافها كقيس سعيّد، بل سيكون مستبدا يمسك السلاح في يديه، ويدعمه تحالف دولي إقليمي واسع.. ويجيد استخدام الكمبيوتر!

خلاصة القول.. السلطة في تونس اليوم ملقاة على الطريق، إما أن يلتقطها مستبد جديد، أو أن يحافظ عليها الشعب بإعادتها للمؤسسات المنتخبة.

نسأل الله أن يحفظ تونس من شرور الاستبداد..

وسوم: العدد 965