مقام الدهش

ما أكثر ما وصفنا بالعبقرية الإنسان الشديد الذكاء وهي منه براء؛ فما العبقرية إلا الإبداع، أي بلوغ الغاية من غير مسالكها المطروقة، وما الذكاء إلا تحكيم الخبرة، أي استحضار التجارب والاستفادة منها، وفي قليل من الذكاء كفايةُ العبقريِّ! هذا أصل راسخ ثابت، تتفرع منه أعمال الإنسان كلها، ومنها الشعر: أما ذكاء الشاعر في عمله فاستحضاره ما ادخره منه وجَرْيُه مجراه، وأما إبداعه في عمله (عبقريته) فسياسته ما حضره مما ادخره وجَرْيُه غيرَ مجراه! ولا ريب في أن كبار الشعراء أحوج إلى جرأة الإبداع منهم إلى شدة الذكاء، وعندئذ يقوم متلقو شعرهم في مقام الدّهَش الذي من قام فيه ذهل عن حاله ذهول المنوم مغناطيسيا ثم انقاد انقياده!

ولقد وُفِّق أبو الطيب المتنبي في قصيدته "أَجَابَ دَمْعِي وَمَا الدَّاعِي سِوَى طَلَلِ"، إلى إدهاش متلقيها الذين تَرَبَّصوا به في مجلس سيف الدولة الحمداني، وبلوغ الغاية التي تَغَيّاها منه، جميعا معا، ولكنْ لم يُنسب هذا الإدهاش من تلك القصيدة ذات الثمانية والأربعين بيتا، إلا إلى البيت الأربعين وحده، ثم إلى ما استطرد إليه عنه في المجلس نفسه مما ليس من قصيدته؛ فرأيت أن أنسبه قبل ذلك إلى القصيدة كلها، ففصّلتها في مقالي "ظاهرة الإدهاش العروضي اللغوي في شعر المتنبي"، على ثلاثة فصول (الغزل، والمدح، والعتبى)، وعشر فقر (الشكوى، واليأس، والحكمة، والذكرى، والجود، والتنبيه، والإقدام، والتعليق، والرجاء، والثناء)، وأربع وسبعين جملة، ثم اشتغلت بسَبْر ما وقع بين هذه الطبقات المفصلة كلها من وجوه الإدهاش العام الخفية، لأتفرغ بعدئذ لنَقْد ما وقع بين أفعال البيت الأربعين المشار إليه آنفا وما استطرد إليه عنه، من وجوه الإدهاش الخاص الجليّة. ولما كنت قد عثرت في شعر المتنبي من مثل ذلك على كثيرٍ غير مُشارٍ إليه ولا مُعتنًى به، جمعتُه وصنفتُه جمعا وتصنيفا كاملين كافيين، ثم ألحقته بالمقال؛ عسى أن أنشط له أنا أو غيري!

لقد اشتمل هذا المقال من الطرب العروضي اللغوي، على ما استحق أن يُعدّ خطوة رابعة في سبيل التطبيق النصي العروضي، اختلف فيها مقدِّروها على وجهين: رضًا أفضى إلى توصية بالاتباع والاقتداء، وسخَط أفضى إلى سخرية بما فيه من ادعاء! والحمد لله على سخط الساخطين ورضا الراضين!

وسوم: العدد 966