أخلاق العتمة الحريرية: عَوْد إلى جوزيف سماحة

ذات حقبة، قبل عقد على الأقلّ من انحيازه إلى صفّ «حزب الله» وأطروحات «محور المقاومة»؛ كان الصديق الكاتب اللبناني الراحل جوزيف سماحة (1949-2007) قد ربط، ببراعة جدلية رفيعة، بين ملفات موت مثقف ذهب ليسامح قَتَلة أبيه، ويصنع فيلماً اسمه «ذاكرة للنسيان»، فقتلته عتمة واحدة ذات نظائر شتى، من جهة أولى؛ وملفات «تسامح» أعرض مع ماضٍ سياسي وتاريخي وثقافي، تبدأ أمثلته من ألمانيا واليابان وفرنسا ما بعد الحرب العالمية الثانية، قبل أن تنتهي عند مثالين محليين: الحرب الأهلية في لبنان، والسلام العربي – الإسرائيلي، من جهة ثانية.

كتاب سماحة «قضاء لا قدر: في أخلاق الجمهورية الثانية»، 1996، اعتمد واقعة موت السينمائي اللبناني مارون بغدادي (1950-1993)؛ حيث شاعت سردية تقول إنه سقط من دَرَج بيته المعتم، ونزف وحيداً حتى فارق الحياة، فلم يعلم أحد بموته إلا بعد مرور أيام. لكنها، في تقدير سماحة، كانت أكثر من حادثة «قضاء وقدر» على طراز كلاسيكي، إذْ تتكشف طيّ تفاصيلها (غير الغنية مع ذلك، وشبه العبثية)، حكاية «جثة أخرى في بلاد الموت السهل»، وقوّة عتمة سلّم «أضاءت مدى غياب اليسار اللبناني» الذي لم يتعرف على أحد أبنائه؛ ليس لأنه انشق أو ضلّ أو ارتدّ، بل لأنّ «هذا اليسار لم يعد يملك القوّة اللازمة لهذا الحدّ الأدنى من التعبير، ولأنه يخشى النور».

هكذا مضى سماحة ضمن مساجلة وضعت وفاة بغدادي داخل معادلة تختصر أخلاقيات «الحزب الحريري» والجمهورية الثانية، حيث يقود التواطؤ المعلن إلى فرضية تقول، ببساطة، إنّ القضاء والقدر قد تسبّب في تدمير واحتراب و«إسقاط» بلد بأسره؛ فلماذا لا يعتبر مسؤولاً عن إسقاط/ سقوط رجل في عتمة درج؟ التفريع المدهش التالي لاتهام العتمة بالقتل، هو أنّ «سلطة المال وكهربة لبنان» تختصران الحريرية (نسبة إلى رفيق الحريري)، التي ليس في وسعها احتمال عتمة تقتل (إذا كانت «قاتلة» بالفعل، كما تساءل سماحة) وتثقب أساسات «سوليدير». ذلك لأنه توفّرت، ورسخت واستقرت، حريرية شاملة ترث «المغلوب» الواضح، وتبحث عن «الغالب» المحلي في حدود الصلاحيات التي يمنحها الغالب الإقليمي؛ وتوفّرت، في المقابل، معارضة عاجزة، وبيان نقدي شجاع حول المستقبل… «لئلا يموت اليسار خجلاً»!.

لكنّ لبنان ما بعد اغتيال رفيق الحريري، واضطرار النظام السوري إلى الانسحاب العسكري مع البقاء سياسياً وأمنياً ومافيوزياً ما أمكن، استولد سلسلة من المعادلات، لم تُدخل تبديلات جذرية أفقية وشاقولية على محاصصات القوّة والنفوذ والولاء والتبعية، فحسب؛ بل تكفّلت، خلال أمدية قياسية حقاً، في تسليم قرار البلد إلى الوالي الفقيه في طهران، ممثلاً في وكيله المحلي حسن نصر الله وميليشيات «حزب الله». وإذا كان الضرب بالمندل هو الأقرب إلى توصيف رياضة تزعم التنبؤ بما كان سماحة سوف يقوله تعقيباً على انسحاب سعد الحريري من الحياة السياسية، فإنّ مواقف صديقنا الراحل من حكاية المقاومة و«الضباط الأحرار» في قلب النظام السوري والمغزى الجيو – سياسي لولاية الفقيه، وصولاً إلى إطلاق صحيفة «الأخبار»… لا تترك هوامش ارتياب ملموسة حول استئناف قَدَر، هذه المرّة، يتحكم به السيد؛ وليس أيّ قضاء يتولاه أمثال القاضي طارق بيطار.

وليست عودة هذه السطور إلى سماحة، بصدد مسارح آل الحريري الراهنة، أكثر من استعادة لسياقات حقبة لبنانية شهدت عداءً مريراً للحريرية، لكنها انقلبت سريعاً إلى ارتماء في أحضان «المقاومة»، وتسليم بسلطة الأمر الواقع كما يحتكرها «حزب الله»، واختلاط نقد «سوليدير» بالتعامي عن فساد «المال الطاهر» وما يديره من شبكات تهريب ومخدرات ومال قذر. ولم يكن مآلاً مفاجئاً، أو حتى غريباً عن سنّة الحريري الأب نفسه، أن يذهب الحريري الابن إلى دمشق، أو يحذو حذوه وليد جنبلاط، لمصافحة النظام قاتل الأبوين.

أو… أن يتقاعد سعد، ليحلّ محلّه بهاء!

وسوم: العدد 966