ديمقراطيات لا تسمن ولا تغني من جوع!
كيف نفسّر هذا التناقض الخطير الذي تعيشه مجتمعات كثيرة في العالم، بين قلّة تملك الكثير، وكثرة تملك القليل أو لا تملك شيئاً ويعاني بعضها من التشرّد وعدم الرعاية الصحّية ومن الجوع أو حتّى الاضطرار إلى إخلاء المساكن؟!.
هناك في العالم الآن عموماً حالة انحسار للطبقة الوسطى وازدياد مخيف لعدد الفقراء ولقيمة ثروة الأغنياء. وقد نشرت المنظّمة العالمية للغذاء والزراعة (الفاو) منذ سنوات قليلة، معلومات أشارت فيها إلى مخاطر الأزمات الاقتصادية العالمية والتي دفعت بأكثر من مليار شخص في العالم إلى مستوى حالة الجوع، ويعني هذا أنّ هناك جائعاً واحداً من كل ستّة أشخاص في العالم، هذا العالم الذي ينفق على التسلّح سنوياً حوالي 1500 مليار من الدولارات!!
طبعاً، غالبية الجياع هم من أفريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية، وكذلك هي حروب العالم المعاصر على أرض هولاء. وكأنّه كُتِب على شعوب الدول النامية والفقيرة أن تجمع بين الابتلاءين: الجوع والخوف معاً!
فالعالم اليوم يدفع ثمن مزيج من العوامل التي تراكمت في العقود الماضية وجعلت الكرة الأرضية موزّعةً في أزماتها السياسية والعسكرية بين "شرق وغرب"، ثمّ في أزماتها الاقتصادية بين "شمال وجنوب" بحيث لم تسلم بقعة على هذه الأرض من آثار ما فعله "الإنسان" المستخلف عليها لرعايتها وإعمارها، حتّى القطب الشمالي المتجمّد مهدّد بالذوبان بفعل ما خلّفته "الحضارة الصناعية" من تأثيراتٍ سلبية على المناخ.
وإذا كان مفهوماً ما تخلّفه الحروب والكوارث الطبيعية من حالات تشرّد وجوع وبطالة، فما تفسير هذه الحالات في مجتمعاتٍ لا هي في حروب ولا تعيش مخلّفات كارثة طبيعية إلا أن تكون هذه المجتمعات مفتقرة للعدل الاجتماعي والسياسي وغنية بالفساد والاحتكار وسوء توزيع الثروات الوطنية وهيمنة الجشعين الفاسدين فيها على مقاليد الحكم.
قد تكون الحروب بين الدول هي مسؤولة أحياناً عن وجود حالتيْ "الخوف والجوع"، لكن قد تحدث الحروب أيضاً بسبب تفاقم مشكلة "الخوف من الآخر"، كما قد يشهد العالم حروباً إقليمية لأسباب اقتصادية ترتبط بالخوف من الجوع نفسه، أو محصّلة لضغوطاتٍ وعقوبات اقتصادية. فحالتا "الخوف والجوع" عوامل سببية لحروب كما هي حصادٌ طبيعي للحروب نفسها.
وتتزامن في هذه الفترة قضيتان تزداد الخلافات حولهما بين العديد من دول العالم، وهما: السياسة والاقتصاد، وكلاهما معاً يشكّلان مفاهيم الأمن السياسي والأمن الاجتماعي، على مستوى الحكومات، وهواجس محاولة تأمين لقمة العيش والخشية على العيش نفسه، على مستوى الشعوب. فالجوع والخوف هما أسوأ ما يُبتلى به فردٌ أو جماعة أو أمّة.
وقد انشغل العالم في العقود الثلاثة الماضية بمقولة الديمقراطية السياسية بعدما انهارت تجربة الأنظمة الشيوعية التي كانت تهتمّ بمسألة العدل الاجتماعي فقط، وتقف سلباً ضدّ قضايا الدين والقوميات والحرّيات العامّة وصيغ نظام الحكم الديمقراطي.
ولأنّ "المنافسة الحرّة" هي أساس في النظرية الرأسمالية، فإنّ حواجز الحدود والثقافات يجب أن تسقط أمام روّاد الرأسمالية من أصحاب شركات كبرى ومفكرين واقتصاديين وسياسيين. كذلك، فإنّ "المنافسة الحرّة" تعني المنافسة وسط المجتمع الرأسمالي نفسه، وتكون نتيجة المنافسة محكومة بقانون "البقاء للأقوى".
لذلك، جاءت "أطروحة العولمة" كنتاج طبيعي لوجود الفكر الرأسمالي نفسه والذي لا يعترف بحدودٍ جغرافية أو حواجز ثقافية.
وقد تختلف أساليب "عولمة" هذا الفكر ومحاولات نشره من عصرٍ إلى آخر، من استعمارٍ مباشر (كما كان في الماضي) إلى محاولة التحكّم بالقوى الفاعلة داخليًا (كما هو في الحاضر)، لكن يبقى الهدف عند دعاته: تأمين مزيد من الأسواق للاستهلاك، ومزيد من الثروات للاستيلاء عليها، وتقنين العلاقات داخل المجتمعات وبين بعضها البعض على أساس أوضاع ثقافية وسياسية واقتصادية تصون قوانين "الرأسمالية" ووجودها ودورها.
وستضطرّ الأنظمة الرأسمالية الآن، والتي يُعاني معظمها من أزماتٍ حادّة، إلى مراجعات كبيرة في أفكارها وممارساتها وربّما إلى تعديل مفاهيم جوهرية في طبيعة "الاقتصاد الحر" بحيث لا يُترك "السوق" وحده كمرجعية، وإلى اعتماد التدخّل الحكومي في مراقبة حركة "السوق"، والتخطيط الاقتصادي الشامل الذي يجمع بين مسؤولية "القطاع العام" ودور "القطاع الخاص". وهذه مفاهيم تنحو نحو صيغة "الاشتراكية الاجتماعية" التي تعتمدها الآن بعض الدول، والتي تقوم على الجمع بين الديمقراطية السياسية والعدالة الاجتماعية، وبين "الاقتصاد الحر" من جهة، ورقابة الدولة وتخطيطها الشامل من جهة أخرى.
فالديمقراطية وحدها فقط ليست هي العلاج السحري الناجع لحالتيْ الجوع والخوف. وليس بالضرورة أن ترتبط الديمقراطية بالعدالة الاجتماعية وبالأمن الاجتماعي وبالقيم الأخلاقية. ولعلّ خير مثال على ذلك، الأنظمة الديمقراطية الغربية عموماً التي حرصت على النظام الديمقراطي داخل مجتمعاتها بينما أباحت لنفسها استعمار واحتلال شعوب أخرى. فهي ديمقراطيات عنصرية لأنّها استباحت شعوباً أخرى لصالح مصالحها، وهي حتّى غير عادلة في مجتمعاتها أحياناً، حيث ما زال القوي الغني يأكل الضعيف الفقير، وهذا سياق طبيعي للترابط الحاصل في الغرب بين الديمقراطية في نظام الحكم السياسي وبين مقوّمات الاقتصاد الرأسمالي القائم على المنافسة الحرّة!.
ولم تتحقّق رفاهية العيش في مجتمعات الغرب حصيلة وجود الديمقراطية فقط، وإنّما أيضاً حصيلة أحد أمرين أو الاثنين معاً: السيطرة على شعوب أخرى ونهب ثرواتها.. والنظام الاتّحادي التكاملي الذي أوجد قدراتٍ اقتصادية هائلة، كما هو حال الولايات المتحدة والاتّحاد الأوروبي والاتّحاد الروسي والصين الكبرى.
وهاهو العالم اليوم يعاني من تجاهل مسألة العدل الاجتماعي وحقوق النّاس في لقمة العيش والعمل والسكن والضمانات الصحّية والاجتماعية بعدما انشغلت أممٌ عديدة في صراعاتٍ حول قضايا "الدين والقومية والديمقراطية"!. ونجد أيضاً في أزمنة وأمكنة مختلفة مشكلة انحسار المفاهيم الصحيحة لهذه القضايا الكبرى المعنيّة البشرية جمعاء بها. فالرسالات السماوية كلّها حضّت على العدل بين الناس وعلى رفض الظلم والطغيان والجشع والفساد، وعلى إقرار حقّ السائل والمحروم، بينما تتحوّل المناسبات الدينية الآن في معظم أرجاء العالم إلى "سوق تجاري كبير" وإلى موسم رحلات سياحية!!.
والمنطقة العربية ليست بشواذ عمّا أشرت إليه وعمّا يحدث حولها في الغرب والشرق، فهي جزء من "ساحات الحروب" الماضية والمعاصرة، ومعظمها مبتَلٍ بصراعاتٍ داخلية وبحكوماتٍ هي أفضل مصدر لحالتيْ الجوع والخوف معاً!.
ففي تقرير "تحدّيات التنمية في الدول العربية" الذي أعدّته الجامعة العربية منذ سنواتٍ قليلة بالاشتراك مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، هناك أرقام مفجعة عن مستوى نسبة الفقر والبطالة في الدول العربية حيث ذكر التقرير أنّ ما نحو 140 مليون عربي يعيشون تحت خطّ الفقر الأعلى، أي حوالي 40% من عدد سكان المنطقة العربية. ووفق هذا التقرير، فإنّ معدّل البطالة بين الشباب في هذه المنطقة هو نحو 25% ممّا يجعل من معدّل البطالة بين شبابها الأعلى في العالم كلّه.
ولقد نشرت آنذاك وسائل إعلام عربية هذا التقرير في اليوم نفسه الذي نقلت فيه عن مجلة "أرابيان بيزنس" لائحة أسماء أغنى 50 عربياً والذين تصل ثرواتهم لحوالي مبلغ 300 مليار دولار!. فهذه صورة قاتمة لما هو قائمٌ في البلاد العربية من ازدياد في معدّل نسبة الفقر والبطالة، مقابل زيادة ثرواتٍ لأفراد!.
طبعاً الفقر والبطالة ليسا من من مسؤولية هؤلاء الأفراد العرب، بل هي أولاً وأخيراً مسؤولية الحكومات المؤتمنة على ثروات أوطانها ومقدّرات شعوبها وعن إدارة الإنتاج في مجتمعاتها. وبعض هذه الحكومات يمارس الرشوة والفساد وسرقة المال العام، وهولاء يستحقّون المساءلة والمحاسبة، لكن هل يُحاسي الفاسد والسارق نفسه!.
هنا أهمّية العدل السياسي من أجل تحقيق العدل الاجتماعي، وهنا الرابط بين "تذكرة الانتخابات" و"لقمة العيش"، وهنا ضرورة بناء المجتمعات على أساس الفصل بين السلطات فيها تحقيقاً لأهداف الرقابة والمحاسبة.
هنا أيضاً أهمّية التكامل المنشود بين الدول العربية حيث متطلّبات التنمية والتقدّم تفرض حدوث التكامل الاقتصادي بين أقطار الأمّة العربية، فكما لا أمن لأي بلد عربي بمعزل عن الأمن القومي العربي، كذلك فإنّ التنمية العربية الشاملة لا تتحقّق من دون التكامل الجاد بين اقتصاديات الدول العربية.
إنّ "الديمقراطية والاتّحاد" هما الآن في أوروبا وجهان لمشروع أوروبا الواحدة. أوروبا التي عانت في القرن الماضي من حربين عالميتين، ومن تقسيم سياسي وأمني بين القطبين الأميركي والروسي لأكثر من نصف قرن، أوروبا التي هي قوميات ولغات وثقافات وطوائف مختلفة، تبني الآن حلم "الاتّحاد الأوروبي"، وتفتح حدودها وأسواقها لكل شعوب دول الاتحاد، وترى في ذلك ضمانة استمرار استقرارها السياسي والأمني والاجتماعي.
فعسى أن ينشغل المعنيّون بصناعة القرار في البلاد العربية بكيفيّة تحقيق "الاتّحاد الديمقراطي العربي" لمعالجة حالات الفقر والبطالة.. ولمواجهة مخاطر التقسيم والحروب الأهلية والتدخّل الأجنبي!.
وسوم: العدد 966