ولا تنسوا الفضل بينكم
أية عظيمة نحفظها جميعا قوله تعالى: ( ولا تنسوا الفضل بينكم ) هذه الآية الكريمة التي جاءت في سياق آيات الطلاق في سورة البقرة، و إن القيم الآية الكريمة و فوائدها تتجاوز حدود قضية الطلاق ؛ فالفضل في ميزان أللتعامل الاجتماعي قيمة راقية ، لا ينعدم أثرها بين الناس ، فالفضل بين الناس يبقى أثره و لو مضت السنين و لو تغيرت الأحوال ، يبقى نفعه عند الأحرار، و أثره لا يزول و قد رأيت الشاعر الحطيئة يؤكدها في بيته الشعري المشهور
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه *** لا يذهب العرف بين الله والناس
يعد نسيان الفضل دليل على قلة المروءة ، بل يعد ضعفا في الخلق و نقص في كمال الرجولة ؛ فالمرء السوي العاقل لا يعدم المعروف المسدى إليه ، فمن صفات الرجولة نبل الكرم و من صفات الرجولة الوفاء ، و صون العشرة و حفظها . كما قال شاعرنا :
إن الوفاء على الكرام فريضة *** واللؤم مقرون بذي النسيان
وترى الكريم لمن يعاشر حافظا *** وترى اللئيم مضيع الإخوان
و أنن قدوتها في الفضل حبيبنا محمدا صلى الله عليه و سلم تجلى خلق الوفاء ناصعا في خصاله ، حتى أصبحت لطائفه مميزة لسيرته العطرة، و قد استوقفني موقف عملي في قصة الرسول في الطائف حين تعرض لأذى الكفار و رجع مكة في حماية مطعم بن عدي الرجل المشرك ، دخل في جوار المطعم بن عدي، فأمر مطعم بن عدي أولاده الأربعة ، فلبسوا السلاح، وقام كل واحد منهم عند الركن من الكعبة، فبلغ ذلك قريشاً فقالوا له: أنت الرجل الذي لا تخفر ذمتك ، فحفظ الرسول لمطعم نبل خلقه ، و لم يغب عن ناظر الرسول صلى الله عليه و سلم ذلك الصنيع .و مات مطعم مشركا و دارت الدوائر على قريش فوقع منهم الأسرى في غزوة بدر الكبرى فأراد الرسول أن يمتن لذلك الصنيع الموثق في حديث في البخاري ـ: ( لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له . والمعنى: لو طلب مني تركهم وإطلاقهم من الأسر بغير فداء لفعلت؛ ذلك مكافأة له على فضله السابق في قبول الجوار )
فصلوات الله وسلامه على معلم الناس الخير.، إذا كان الفضل يحفظ لغير المسلم فما بالك بالفضل بين المسلمين .
إن الروابط لاجتماعية في الأمة كثيرة ، و في الكثير من أحوالنا تبنى على هذه القاعدة القرآنية الرائعة أحكام عملية ، فالفضل ينشأ و ينمو من خلال صقل النفس و تهذيبها و تحصيل تزكيتها بالمجاهدة المستمدة من نبع التربية الأصيلة المحصنة بمنهج التوسط و الاعتدال ، أحسبها العاصمة عند وقوع الاختلال و التصدع ، حين تهتز الثقة بين الشركاء ، فتختل الموازين ؛ و هذا أمر طبيعي لا يستبعد حصوله ، لكن ضامن السلامة رسوخ هذا الخلق في تعامل الناس و بين الشركاء و الأصدقاء و الإخوان ، و ذكر ابن كثير كلامًا أخرجه ابن مردويْه عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ليأتين على الناس زمان عضوض، يعضّ المؤمن على ما في يديه، وينسى الفضل، وقد قال تعالى: {ولا تنسوا الفضل بينكم}.
فإن صمام الآمان الذي يحفظ اللحمة و يديم التواصل و يبقي الوداد و يحيي التنسيق في الأمور الكبيرة هو بلوغ الفضل بين أهله ، بتحصيل الفهم الشامل لمنهج التوسط و الاعتدال ، فما نراه من تردي و سقوط بين أصحاب أنصاف الإفهام المشوهة أو أصحاب الأمزجة المتقلبة أو المطامح المغمورة بالنزوات أو النفوس الضعيفة التي لا نحسن مقاومة التيار فتسقط في الوحل فلا ترعى الفضل للمربي، و لا ترعى الفضل للأستاذ ، و لا ترعى للمحسن ، و لا ترعى الفضل لصاحب البذل ، فكل هذا ببعادنا عن عظمة هذا الخلق الراقي .
وجب أن نجسد العمل بهذا الخلق الدعوي المحمود، لأنه من أخلاق القرآن والسنة، المطلوب اليوم، أنن نعيده كما كان بالأمس ، المطلوب أن قيم الفضل في تعاملنا لنسعد بهذا التوجيه القرآني الكريم نجعله شعارا في حياتنا ( ولا تنسوا الفضل بينكم . )
وسوم: العدد 967