الشيخ جودت سعيد والزوابع
أحسَبُ أن ذكر الشيخ جودت سعيد قد توارى منذ عقود، فلم أعلم له إصدارات جديدة، ولم أسمع له مدحاً ولا قدحاً. لكن وفاته قبل أيام أثارت زوابع ومساجلات بين مؤيديه ومعارضيه، فمنهم المعتدل ومنهم الغالي.
لقد قرأت للشيخ جودت: "حتى يغيّروا ما بأنفسهم" و"مذهب ابن آدم الأول" و"الإنسان حين يكون كلاً، وحين يكون عدلاً" و"العمل قدرة وإرادة".
وعايشته في سجن الحلبوني سنة 1974م بضعة شهور، وكنتُ معه في غرفة واحدة بضعة أسابيع، ثم التقيتُه في عمّان منذ نحو عشرين سنة.
أذكر هذا لأقول: إنني أعرف الرجل معرفةً لا بأس بها. وحين اطلعت على بعض ما كتبه إخوة كرام، مادحين أو قادحين، رأيتُ من واجبي أن أدلي بدلوي فأقول: ليس الرجل بمقام أبي بكر وعمر، كما أنه ليس كأبي جهل وحافظ أسد. وإنه شخصية إشكالية يجد فيها المادحون ما يرفعونه إلى مقامات عليا، كما يجد الذامّون بغيتهم.
وأنوّه هنا بأن الصفات الخُلقية للرجل هي أبرز مناقبه. فهو يتصف بالودّ والوفاء والصدق والكرم والعفّة والذكاء. ولعلّ ما وصفه به الأستاذ محمد فاروق بطل قد وفّاه حقّه.
لكن هذا كله قد يكون قليل الأهمية حين نقوّم شخصية ذات فكر وصاحبة رسالة. إذ المهم هو تقويم الفكر الذي تحمله.
وهنا نسجل للشيخ جودت مجموعة من النقاط، منها ما يُحسب له، ومنها ما يُحسب عليه:
1- الرجل صاحب زاد في العلوم والثقافة الإسلامية. ولا ننسى أنه من خريجي جامعة الأزهر.
2- هو صادق فيما يدعو إليه من فكر، وليس كالمأجورين الذين ينفخون في أبواق الطغاة وأرباب النعمة. وإن من الظلم أن نجعله بمنزلة محمد شحرور وأضرابه.
3- لعلّ الفكرتين اللتين تدور حولهما معظم كتاباته، هما:
أ- السّلميّة ونبذ العنف، بل الإفراط في ذلك.
ب- إبراز أهمية السنن الكونية والاجتماعية.
4- مَن يقرأ له، أو يستمع إليه، يجد أن تأثره بالفكر الغربي قد يفوق تأثره بالكتاب والسنّة. وأهم مَن يستشهد بأقوالهم ومنهجهم في الحياة: المهاتما غاندي، وأرنولد توينبي، ومالك بن نبي [ومالك صاحب عاطفة صادقة تجاه الإسلام، لكنه نشأ على الفكر الغربي واللغة الفرنسية، وتعلّمَ العربيّةَ في النصف الثاني من عمره].
5- لا أعلم أنه غيّر من طروحاته أو تراجع عما نشره في مقتبل عمره، على الرغم مما رأى من عناد الطغيان وصلفه وبطشه، أمام المقهورين والمظلومين.
6- قراءاته للسنن انتقائيّة. فهو يختار منها ما يسوّغ به الاستسلام والخنوع، دون ما يدعو إلى المقاومة. ومِثلُ ذلك انتقاؤه ما يؤيد نظريته من الكتاب والسنّة، دون ما يخالفها.
يختار من سنّة الله في المجتمعات: (إنّ الله لا يغيّرُ ما بقومٍ حتى يُغيّروا ما بأنفسهم)، وينسى سنناً أخرى كقوله تعالى: (كم مِن فِئةٍ قليلةٍ غلبتْ فئةً كثيرةً بإذن الله. والله مع الصابرين)، وكقوله تعالى: (قاتِلوهم يُعذّبهم اللهُ بأيديكم ويُخزهم وينصرْكم عليهم ويشف صدور قومٍ مؤمنين).
7- وما دام يتكلّم باسم الإسلام، وليس باسم الشيوعية أو الليبرالية، فلا ينبغي له أن يتجاوز نصوصاً إسلامية، من قبيل قوله صلّى الله عليه وسلّم: "مَن قُتل دون ماله فهو شهيد، ومَن قُتل دون دينه فهو شهيد...". من حديث رواه الأئمة أحمد والترمذي والنسائي.
8- ولقد تقمّص بعض المفاهيم الوافدة التي توافق مذهبه، ثم قام يطوّع نصوص الكتاب والسنّة لتوافق تلك المفاهيم. وهو بذلك كشأن مَن يكرهون الجهاد، وربما لا يصارحون أنفسهم بذلك. لا يمكنهم أن ينكروا مشروعية الجهاد في الإسلام، لكنهم يختلقون الذرائع التي يبتعدون بها عن الجهاد. وأمْثَلُهم طريقةً هو الذي يتجاهل النصوص الكثيرة في الكتاب والسنّة، والفصول الطويلة في كتب السيرة وكتب الفقه وكتب التاريخ الإسلامي... تلك التي تفصّل في الجهاد تنظيراً وممارسة. هذا فضلاً عن الذين يتصدَّون لمن يجاهد أو يدعو إلى الجهاد، ليقولوا: ليس هذا هو الجهاد المطلوب، أو ليس هذا وقته، أو لم تتوافر شروطه... وحين يَظهرون على خطأ من مجاهد فهي فرصتهم للتشهير بالجهاد والمجاهدين، مع أن أخطاء حصلت في جهاد بعض الصحابة، فما كانت سبباً لمنعهم من الجهاد، أو لإلغاء الجهاد، وإنما كانت بياناً لخطأ مَن أخطأ، ثم انطلاقهم بعدها لمواصلة الجهاد. ومعظمنا يحفظ قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لأسامة بن زيد بعد أن قَتَلَ مَن قال: "لا إله إلا الله" لظنّ أسامة أن الرجل قالها تعوُّذاً من السلاح [والحديث متفق عليه]. ومثل ذلك خطأ خالد بن الوليد رضي الله عنه، في قتال بني جذيمة، حتى قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد". [والحديث أخرجه البخاري]. ونعلم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك ولّى أسامة وخالداً رضي الله عنهما قيادةَ بعض المعارك.
فالذين يؤمنون بمشروعية الجهاد ويعلمون أنه ذروة سنام الإسلام، يُعدّون له العدّة، ويحضّون عليه، ويرشّدون المجاهدين... بخلاف الذين يجتهدون في فلسفة القعود.
9- لم يسجَّل على الشيخ جودت أنه داهن الطغاة أو تملّقهم، إنما كان مبتلى بوهمٍ مَفادُه أن إنكار القلب، وتحمُّل الأذى، والصبر على الظلم... وفي أقصى الحالات: إنكار اللسان... يمكن أن يتغلّب على الطغيان.
وبطبيعة الحال، ليس مطلوباً من كل فرد أن يقاوم الطغيان بيده، فإمكانات الناس تتفاوت. فمنهم مَن يقاوم بيده، أو بماله، أو بتحريض القادرين على المقاومة والثناء عليهم والدعاء لهم.. (وما يعزُب عن ربّك من مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء)... وهناك من يبلغ به الخوف أو الطمع أن يداهن ويداجي وينافق.
والآن وقد أفضى الرجل إلى ربّه الرحيم، فنحن نشهد له أنه لم ينافق أو يداهن، ونُحسن الظن به، ونسأل الله أن يتقبّل منه ما كان صالحاً، وأن يتجاوز عما زلّ به وأخطأ.
وسوم: العدد 967