الغائب الحاضر

تضمين أبيات القصيدة (تعليق بعض أبياتها ببعض تعليقا نحويا)، أحد مظاهر تلاحمها تلاحم أعضاء الجسم الواحد، الذي تواصى به الشعراء والعلماء؛ فأما الرواة فكانوا منه على حذر؛ إذ تستعصي عليهم رواية البيت الواحد -وهو الأغلب عليها في مقامات الاستشهاد والاحتجاج- إذا كان مضمَّنا. ولما لم يكن بالعلماء عن حَمَلة الشعر غنى، عابوا من أجلهم التضمين، ولكنهم أورثونا أقوالا مختلفة جديرة بالتأمل، تجمع في تقدير التضمين بين التحسين والتقبيح، وكأنهم راعوا في تقديره مصلحة الرواة ومصلحة الشعراء جميعا معا!

لقد تواتر العلماء في عيب التضمين على انتزاع بيتين للنابغة الذبياني، من قصيدته "غَشِيتُ مَنَازِلًا بِعُرَيتِنَاتٍ"، ذات الثلاثة والعشرين بيتا، يدل ثانيهما على أن أولهما مضمن فيه؛ فأقبلت بمقالي "درجات التضمين العروضي"، أنتزع أبياتها كلها بيتا بيتا، وأختبر روايته وحده، فمرة أجده مستغنيا بنفسه، ومرة أجده مفتقرًا إلى غيره، حتى وقفت فيها على سبعة افتقارات متدرجة من عدم التضمين إلى شدته، رددت بعدها النظر في فصول القصيدة -فوجدتها أربعة- ثم في أنصبة فصولها من أبياتها المضمنة وغير المضمنة، فوجدتها متفاوتة؛ فاحتكمت إليها في تمييز أهمية بعضها عند الشاعر من بعض!

ربما كان من جرأة المُتَمَلِّئ بخطواته الست السابقات في سبيل التطبيق النصي العروضي، المبنية على موازنة الحاضر بالحاضر، أن يتجاوزها بخطوته هذه السابعة، إلى موازنة الحاضر بالغائب، حتى إذا ما ذَكَر أنها من داخل مجال الشعر العربي نفسه، تنزل الغائب عنها لديه منزلة الحاضر فيها، وخفت عليه وطأة هذه الجرأة! إنه لمقال لم يمُرَّ بي أخف عليَّ منه ولا أسرع عملا، حتى لقد ارتبتُ في التعويل عليه؛ فإذا به يحظى بما لم يحظ به ما كنت أظنه فتحا من الفتوح، وسبحان علام الغيوب!

وسوم: العدد 968