رؤية مبسطة لنص أورده الجاحظ في كتابه الحيوان
40- عظيم من القضاة، وعظيم من الأدباء:
في تاريخنا الأدبي نصوص رائعة رائقة، تفتن النفوس والعقول، ويجنح فيها الوصف حتى تظن نفسك أنك في صالة مسرح أو قاعة سينما، أطفئت أنوارها، فلا ترى أمامك إلا شخوص القصة وأبطالها وأحداثها، كما كان يصوِّر أديب العربي الأكبر عمرو بن بحر الجاحظ قصة القاضي عبد الله بن سوار، وكان له معاصراً، ويعرفه، ولا يحدثنا عن رواية نقلها عن غيره، بل يروي ما رآه، وعَقَلَه من هذا القاضي الرائع، وهذا القاضي كما ذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء (10/ 434) هو القاضي الإمام، أبو السوار العنبري البصري، كان هو وأبوه وجده قضاة البصرة، وتوفي سنة 228 هـ، ويقول الصفدي في الوافي بالوفيات (17/ 108) القاضي العنبري عبد الله بن سوار بن عبد الله بن قدامة العنبري القاضي البصري، وثقه أبو داود وغيره. قال المحدثون: كان صاحب سنة وعلم، وتوفي سنة ثمان وعشرين ومائتين.
إذن هذا هو القاضي، ولكن ماذا عن قصة الجاحظ مع هذا القاضي؟
يقول الدكتور شوقي ضيف عن أدب الجاحظ في كتابه الفن ومذاهبه في النثر العربي (ص: 164): إنه كان مصورًا عظيمًا، إذ كان يعرف كيف ينقل المَشاهد بجميع تفاصيلها، ودقائقها، تسعفه في ذلك قدرة غريبة على الملاحظة، وهي قدرة جعلته يحسن التصوير من جهة، كما يحسن القصص من جهة أخرى، ويتضح ذلك من كتابه البخلاء حين يرسم جشع النهمين، وحركات أيديهم، وقسمات وجوههم، كما يتضح في كتاب الحيوان، وما أودعه من قصص، ومن قصصه البارعة فيه التي تصور دقة تصويره ما حكاه عن عبد الله بن سوار القاضي، ووقاره في قصصه الديني ووعظه، وأنه كان لا يحرك أثناء كلامه رأسه، ولا يديه حتى كأن كلامه يخرج من صدع صخرة، فألح الذباب عليه يومًا، وما زال به حتى أخرجه عن طبعه، فاستعان بتحرك أجفانه، ولم يُجْدِه ذلك نفعًا، فذبَّه عن وجهه بيديه، فابتعد عنه [الذباب] قليلاً ثم عاد إليه، فدفعه بطرف كمه، وما زال يتابع ذلك، ولنتابع دقة التعبير، وقوة التصوير، وفن القصص عند الجاحظ
يقول الجاحظ في كتاب الحيوان (3/ 163):
كان لنا بالبصرة قاض يقال له عبد الله بن سوّار، لم ير النّاس حاكما قطّ، ولا زمّيتا [وقوراً]، ولا ركينًا [رزيناً]، ولا وقورًا حليمًا، ضبط من نفسه، وملك من حركته مثل الذي ضبط وملك، كان يصلّي الغداة في منزله، وهو قريب الدّار من مسجده، فيأتي مجلسه فيحتبي ولا يتّكئ، فلا يزال منتصبًا ولا يتحرّك له عضو، ولا يلتفت، ولا يحلّ حبوته، ولا يحوّل رِجلاً عن رجل، ولا يعتمد على أحد شقّيه، حتّى كأنّه بناء مبنيّ، أو صخرة منصوبة [نتوقف هنا قليلاً لنرى أن الجاحظ وصف القاضي بجلسته التي تميزت بالتزمت، فكأنه قطعة جليد لا تتحرك، ثم يتابع رحمه الله الكلام بوصف القاضي]، فلا يزال كذلك، حتّى يقوم إلى صلاة الظهر، ثمّ يعود إلى مجلسه، فلا يزال كذلك حتى يقوم إلى العصر، ثمّ يرجع لمجلسه، فلا يزال كذلك حتى يقوم لصلاة المغرب، ثمّ ربما عاد إلى محلّه، بل كثيرًا ما كان يكون ذلك إذا بقي عليه من قراءة العهود، والشّروط، والوثائق، ثمّ يصلّي العشاء الأخيرة وينصرف.
فالحق يقال: لم يقم في طول تلك المدّة والولاية مرّة واحدة إلى الوضوء، ولا احتاج إليه، ولا شرب ماء، ولا غيره من الشّراب، كذلك كان شأنه في طوال الأيام وفي قصارها، وفي صيفها وفي شتائها، وكان مع ذلك لا يحرّك يده، ولا يشير برأسه. [وهنا نرى أن الجاحظ أنهى وصف الحياة اليومية لهذا القاضي الذي كان مشهوراً بالعدل والصلاح، وكيف كانت حياته كلها ضمن عمل دائب لا ينقطع، ثم يتابع ليصوّر لنا هدف إيراده لقصة هذا القاضي في كتاب أطلق عليه اسم الحيوان، فهو أتى بهذه الشخصية العظيمة ليثبت أمراً يريده حول الذباب الذي يتكلم عنه في ثنايا كتابه، ويريد أن يخبرنا بأن الذباب ملحاح في ما يريد، ولا يفتر، ولا يمل من طلب ما يريد، فيعود إلى القاضي وقد حمل في جعبته آلة التصوير البيانية الدقيقة التي تصور دقائق الأشياء، وفعلاً يصح وصفها بآلة التصوير الذكية، فيقول عن القاضي]:
وليس إلّا أن يتكلم ثمّ يوجز، ويبلغ بالكلام اليسير المعاني الكثيرة، فبينا هو كذلك ذات يوم وأصحابه حواليه، وفي السّماطين بين يديه [السماطان: صفّان من حاضري دروس، أو أعمال الشيخ القاضي]، إذ سقط على أنفه ذباب فأطال المكث، ثمّ تحوّل إلى مؤق عينه [طرف عينه القريب من الأنف]، فرام الصّبر في سقوطه على المؤق، وعلى عضّه ونفاذ خرطومه، كما رام من الصبر على سقوطه على أنفه من غير أن يحرّك أرنبته [مقدمة أنفه]، أو يغضّن وجهه، أو يذبّ بإصبعه [انظر إلى هذا التصوير الرائع لوصف تحمُّل القاضي الوقور للسع الذباب القارص] فلمّا طال ذلك عليه من الذباب، وشغله وأوجعه وأحرقه، وقصد إلى مكان لا يحتمل التّغافل، أطبق جفنه الأعلى على جفنه الأسفل فلم ينهض، فدعاه ذلك إلى أن والى بين الإطباق والفتح، فتنحّى ريثما سكن جفنه، ثمّ عاد إلى مؤقه بأشدّ من مرّته الأولى، فغمس خرطومه في مكان كان قد أوهاه قبل ذلك، فكان احتماله له أضعف، وعجزه عن الصّبر في الثانية أقوى، فحرّك أجفانه، وزاد في شدّة الحركة وفي فتح العين، وفي تتابع الفتح والإطباق، فتنحّى عنه بقدر ما سكنت حركته ثمّ عاد إلى موضعه، فما زال يلحّ عليه حتى استفرغ صبره وبلغ مجهوده، فلم يجد بدّا من أن يذبّ عن عينيه بيده، ففعل، وعيون القوم إليه ترمقه، وكأنّهم لا يرونه، فتنحّى [الذباب] عنه بقدر ما ردّ يده وسكنت حركته ثمّ عاد إلى موضعه، ثمّ ألجأه إلى أن ذبّ عن وجهه بطرف كمِّه، ثم ألجأه إلى أن تابع بين ذلك، وعلم أنّ فعله كلّه بعين من حضره من أمنائه وجلسائه [أرأيت إلى هذا الوصف الرائع وآلة التصوير الدقيقة التي تصف الذباب وتقدمه وتأخره ولسعه وقرصه، وكيف يحرك الشيخ أجفانه ويسرع في حركتها، وكيف يغمض عينيه ويفتحهما، وتصف الشيخ أيضاً وهو يعاين ما يفعله الذباب به، ولا يريد أن يحرك يداً أو حتى رأساً، مع الألم الذي يحدثه لسع الذباب، كل ذلك بمشهد تصويري بديع يجمع بين الأدب وجمال العرض وبلاغته وقوته، ثم يتابع المشهد]. فلمّا نظروا إليه قال: أشهد أنّ الذّباب ألحّ من الخنفساء، وأزهى من الغراب! وأستغفر الله! فما أكثر من أعجبته نفسه فأراد الله عزّ وجلّ أن يعرّفه من ضعفه ما كان عنه مستورًا! [وهنا يعطي الشيخ القاضي ما استفاد من هذه الحادثة، وما تدل عليه من أوصاف ونتائج في المجتمع الإنساني، ثم يتابع الدرس لنفسه، والاعتراف بضعفه أمام حشرة صغيرة ملحاحة وضعيفة، فيقول]: وقد علمتُ أني عند الناس من أزمت الناس، فقد غلبني وفضحني أضعف خلقه! ثمّ تلا قوله تعالى: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}، ولا ينسى الجاحظ أخيراً أن يعطي الشيخ القاضي حقه من الوصف الذي يستحقه، فيقول]: وكان بيّن اللّسان، قليل فضول الكلام، وكان مهيبًا في أصحابه، وكان أحد من لم يطعن عليه في نفسه، ولا في تعريض أصحابه للمنالة.
ثم يلخص لنا الدكتور شوقي ضيف القول في القصة في كتابه الفن ومذاهبه في النثر العربي (ص: 166): فالقصة تعتمد على دقة التصوير، وهي دقة ترسم الواقع رسمًا أمينًا، بدون تهويل، أو مبالغة، أو اعتماد على استعارات، وتشبيهات إلا ما يأتي عفوًا للإيضاح لا للتجميل والتزيين.
وهكذا نرى الجاحظ أديب العربية الأكبر رحمه الله بقوة عرضه، وأسلوبه، وبيانه الأخاذ، فنرى كم هي اللغة العربية دقيقة وجميلة وغنية، وكم تاريخنا الأدبي مليء بالنصوص الجمالية الأخّاذة الفاتنة!!!!.
وسوم: العدد 971