مسـافة الشِّعريَّة، (بين التيَّار النفسي والتيَّار الفكري)
قام الجدل قديمًا وحديثًا حول كلمة (الأصمعي)(1): "طريقُ الشِّعر إذا أدخلته في باب الخير لانَ؛ ألا ترى أنَّ حسَّان بن ثابت كان عَلا في الجاهليَّة والإسلام، فلمَّا دخل شِعره في باب الخير- من مراثي النبي، صلى الله عليه وسلَّم، وحمزة وجعفر، رضوان الله عليهما، وغيرهم- لانَ شِعره؟ وطريق الشِّعر هو طريقُ شِعر الفحول، مثل امرئ القيس، وزهير، والنابغة، من صفات الدِّيار، والرَّحْل، والهجاء، والمديح، والتشبيب بالنِّساء، وصفةِ الحُمر [الخمر؟]، والخيل، والحروب، والافتخار؛ فإذا أدخلته في باب الخير لانَ." فدافع أصحاب الاتجاه المثالي الأخلاقي في الأدب ضدَّها، ظنًّا أن مفهومها ينفي صلاح الأدب بصلاح الأخلاق.
والحقُّ أنَّ الواقع يُثبِت صِدق منظور (الأصمعي) ذاك. غير أن هذا يقتضي الإيضاح والتفسير: لِمَ يقوَى الأدب في الشرِّ ويضعف في الخير؟ وما معنى القوَّة والضعف هاهنا؟
إنَّ تلك المقولة الأصمعيَّة تتناغم مع مقولاتٍ اجتماعيَّةٍ دارجة، تزعم: "أنَّ الخيِّرين قليل". وهذا يستدعي الزعمَ أنَّ الشرَّ ونوازعه كثيرٌ في بني البَشَر، غالبٌ على الخير. أي إنَّ قُوَّة الأدب بالشَّرِّ تتأتَّى من كونه يستجيب لحاجاتٍ إنسانيَّةٍ، ونوازع عالميَّة، أو تستجيب له تلك الحاجات والنوازع، التي لا تخُصُّ جِنسًا ولا دِينًا ولا فئة. فشِعر الحرب، مثلًا، أو الجِنس، يجد صداه لدَى كلِّ إنسان، لا لما فيه من إبداعٍ بالضَّرورة، بل لما يحمل من مضامين نفسيَّة، تطهيرًا، أو إرواءً: قبولًا، أو رفضًا، استحسانًا، أو استقباحًا. وكلُّ أولئك استجاباتٌ تخدم رواج الأدب وازدهاره، وسهر الخلق جرَّاه واختصامهم. على حين تستجيب لأدب الخير والإصلاح فئةٌ مثاليَّة- تظلُّ محدودةً، مهما كان التفاؤل بوجودها- فئةٌ تسامت على طبيعتها البشريَّة الغريزيَّة إلى سماوات الروحيِّ والمثالي. وهي تستجيب لذلك النمط من الأدب استجابةً امتثاليَّة، لا لما فيه من إبداعٍ بالضرورة كذلك، بل لما فيه من مضامين فكريَّة أو إديولوجيَّة تُرضي توجُّهاتها الخيِّرة. وبين محدوديَّة جمهور هذا النوع من الأدب وطريقته في التفاعل والتأثير يكمن ضَعف أدب الخير.
إنَّ نظرة (الأصمعي) للقضيَّة نظرةٌ واقعيَّةٌ صادقة. لا تدعو إلى الاحتفاء بالشَّرِّ، كما يخُيَّل إلى دُعاة الأدب الأخلاقيِّ، فيقفون موقفهم منها، بل تُقرِّر حقيقةً إنسانيَّةً وواقعًا بَشَريًّا. ما العمل إذا كان الأدب نَكِدٌ، والطبيعة البشريَّة نَكِدة كذلك، والنفوس أمَّارة؛ "فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا،لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله"؟!
لا حِيلة في الجمهور المتلقِّي؛ سيظلُّ السَّواد الأعظم منه يتهافت على أنواع من الأدب تُرضي غرائزه البَشريَّة، وهذا أمرٌ طَبْعي. بَيْدَ أنَّ الحِيلة يمكن أن تكون من المبدع نفسه. فليس كلُّ الأدب يقوَى بالشَّرِّ، ضربةَ لازب، فلقد قَوِي شِعرُ كثيرٍ من الشُّعراء في فلسفة الحياة وحِكمتها، (شِعر المتنبِّي، أو المعرِّي، مثلًا). الحِيلة تكمن من جهة المبدع في: موهبةٍ عميقة، وأداةٍ قويَّة، وفوق هذا وذاك في: تفاعلٍ حيٍّ مع قضيَّته، لا تَبَنِّيًا شاعريًّا صِرفًا، لا يُمازج النفس ويُخامر الروح. وبلفظٍ آخَر: أنْ يكون المنشئُ صادقًا، عاطفيًّا وفنِّيًّا، في ما يقول. وعندئذٍ ستجتمع للأدب حُسنَيا القيمة الفنِّيَّة والأخلاقيَّة. وقد رأى (ت. س. إليوت): أنَّ ضَعف الشِّعر الدِّينيِّ مرجعه إلى نوعٍ من النِّفاق الدِّيني، "ذلك أنَّ الذين يكتبون الشِّعرَ الدِّينيَّ إنَّما يكتبون عمَّا كانوا يودُّون أن يُحِسُّوا به لا عمَّا يُحِسُّون"(2).
لقد كانت هذه هي إشكاليَّة (أفلاطون) مع الشِّعر والشُّعراء، وكانت تلك هي مناصحته إيَّاهم ليعودوا من منفاهم، مواطنين صالحين في "جمهوريته الفاضلة".(3) غير أنَّ هذه المعادلة ظلَّت مِن صعوبة التحقُّق بحيث لا يظفر الباحث عنها إلَّا بنماذج نادرة. قد لا يكون منها (أبو العتاهية) وأضرابه، على سبيل المثال، وذلك لتغليب القيمة الأخلاقيَّة على قيمة البناء الفنِّي. بَيْدَ أن نموذجًا كشِعر الشاعر الباكستَّاني الفيلسوف (محمَّد إقبال)، بتوازي شِعريَّته الدِّينيَّة وقيمته الفنِّـيَّة، سيكون من ذلك النوع من الشِّعر الذي يُحقِّق المعادلة.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) المرزباني، (1965)، الموشَّح في مآخذ العلماء على الشُّعراء، تحقيق: علي محمَّد البجاوي، (القاهرة: دار نهضة مِصْر)، 71.
ولعلَّ الصواب في عبارة "صفةِ الحُمر": "صفة الخمر"؛ لأنَّ السياق عن المضامين المنطوية على الشَّرِّ بمقاييس الإسلام، التي لانت بعد الإسلام. وكانت العَرَب تربط بين الخمر والخيل والشِّعر؛ فيقولون: "أشعر الناس امرؤ القيس إذا رَكِب، وزهير إذا رَغِب، والنابغة إذا رَهِب، والأعشى إذا شَرِب."
(2) درو، إليزابيث، (1961)، الشِّعر كيف نفهمه ونتذوَّقه، ترجمة: محمَّد إبراهيم الشوش، (بيروت: مكتبة منَيمَنة)، 314.
(3) انظر: (2004)، جمهوريَّة أفلاطون، دراسة وترجمة: فؤاد زكريَّا، (الإسكندريَّة: دار الوفاء)، الكتاب العاشر: 595- 608.
وسوم: العدد 972