نهضة السلاجقة العظمى، حصان وسيف، ووضوء وسجادة
في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي عرفت الدراما المصرية نمطا متميزا من الأعمال الدرامية المتميزة التي شاهدها الجمهور الناطق بالعربية على امتداد العالم الإسلامي، في مقدمتها قصص الأنبياء، والسيرة النبوية وأعلام الصحابة والتابعين والفقهاء والأدباء وقادة الفتوحات وغيرهم، ومازالت هذه الأعمال تعرض على استحياء حتى اليوم من خلال بعض القنوات. بعد أن احتلت الساحة الدرامية أعمال سطحية متدنية تغص بالابتذال، والرؤى الفاسدة، والتصورات الهشة، واللغة الهابطة. لقد تراجعت الدراما المؤثرة لحساب ما يمكن تسميته باللهجة العامية "الهلس" البائس. الذي يعتمد على التجارة بجسد الأنثى، والتشويق المفتعل من خلال العلاقات المحرمة، والعنف البشع الذي لا مسوغ له، وإدمان المخدرات والمسكرات، فضلا عن تقديم الموضوعات التافهة التي تخص الطبقات الطفيلية المتسلقة، وهي طبقات تعيش على الشراهة والوصولية واللصوصية وسيولة الأخلاق والقيم، فضلا عن اللغة المبتذلة واللهجات المحلية المغرقة في الغموض والصعوبة. نادرا ما تجد عملا يقوم حواره على الفصحى المحببة، لأن معظم المؤدين والمؤديات يفتقرون إلى القدرة على النطق السليم والأداء الصحيح.
رواج هائل
ولعل هذا ما جعل الأعمال الدرامية التي ينتجها الأتراك الموالون للإسلام تلقى رواجا هائلا بين عشرات الملايين في العالم الإسلامي وخارجه على تفاوت لغاتهم ولهجاتهم، فقد صارت الترجمة أو الدبلجة وسيطا فعالا في متابعة هذه الأعمال المسلسلة التي يستغرق بعضها مواسم متتابعة تصل إلى خمسة أعوام أحيانا، كما رأينا في مسلسلي أرطغرل وعاصمة عبد الحميد، ونرى في مسلسل المؤسس عثمان، فضلا عن مسلسلات أخرى طويلة نسبيا مثل ألب أرسلان، ونهضة السلاجقة، ومحمد الفاتح، والملحمة، و الشاعر يونس إمره....
صحيح أن الترجمة العربية تبدو غير جيدة بسبب السرعة الهادفة لتقديم الحلقات إلى الجمهور العربي الذي يتشوق للمتابعة عقب إذاعتها بالتركية على التلفزيون المحلي، ولكن الأحداث على الشاشة تساعد المتلقي على تعويض ما يفوت الترجمة أو ينقصها من دقة التعبير ، أو قصور المعنى.
وتبدو الفكرة العامة في الدراما التركية هادفة إلى تقديم غايتين:
الأولى- نشر الصورة الحقيقية للإسلام، القائمة على العدل والإحسان والقضاء على الظلم، وانتزاع الحرية من الطغاة الذين يستعبدون الناس بغير حق.
الأخرى- كشف الوجه القبيح المخادع والغادر لأعداء الإسلام سواء من الصليبيين والمغول أو غيرهم من الحركات الهدامة التي تسعى لنشر الفساد وعبادة الأشخاص والولاء لغير الله.
بالطبع هناك معالجات أخرى تتعلق بخيانة بعض المنتسبين للصف الإسلامي وما أكثرهم وضعف نفوسهم أمام الشهوات الخاصة أو الإغراءات المادية ونحوها، كما تتناول الدسائس والضغائن التي تسكن القصور وبيوت الحكم، والصراعات التي تجري من خلال مكايدات النساء وطموحاتهن بسبب الغيرة النسوية أو الرغبة في التميز ووصول الأبناء والأقارب إلى سدة الحكم على حساب منافسيهم، لدرجة تعريض وجود القبيلة أو الدولة للخطر.. وهو ما جعل الدراما التركية تقيم بناءها وفقا لحركة النفس البشرية وتحولاتها القلبية والوجدانية.
وفي كل الأحوال، فإن الصراع العام والخاص محكوم بفطنة المسلم وذكائه في مواجهة خداع العدو وخيانة الأقارب ونظرته الرحبة إلى أبعد من المواقف الوقتية!
نموذج متكامل
ويعد مسلسل نهضة السلاجقة الكبرى نموذجا متكاملا للدراما التركية المهمة التي تقوم على الدعائم المشتركة في البناء الفني والمضموني، حيث يحرص على توظيف الجهاد في مواجهة الصليبيين والباطنيين لتسود كلمة الله العليا بالعدل والرحمة والتعاطف والوفاء، إن حضور الإسلام يبدو ساطعا في أقوال وتصرفات الشخصيات السلجوقية المخلصة، وكثيرا ما تقام الصلاة في المساجد والميادين والحجرات، الوضوء ثم سجادة الصلاة، وتلاوة القرآن، والدعاء من أجل النصر ، ورفع البلاء، ورحمة الشهداء، إن الإسلام عبر هذه الدراما ليس أقوالا فحسب، ولكنه سلوك حي يشاهده الأعداء والأصدقاء.
ومن المفارقات أن الدراما العربية في الفترة الأخيرة، خاصمت الإسلام تصورا وممارسة في حركة الأحداث وسلوك الشخصيات، لا تسمع لفظا يوحي بانتماء صاحبه إلى الإسلام، كما تفتقد الأذان والصلاة والدعاء وسجادة الصلاة.. يمكن أن ترى مسبحة طويلة في يد نصاب أو دجّال أو أفّاق، وتشاهد لحية لا ينتمي راعيها إلى ملة الإسلام، بل ترمز إلى النفاق، والإرهاب، والتخلف. لاتعثر هناك في الدراما العربية على شخصية إسلامية ناضجة أو مواليه للإسلام بالمعني الحقيقي.
البناء الإنساني
السلاجقة انتقلوا من مرحلة القبيلة، إلى مرحلة الدولة التي تضم القبائل والقرى والمدن، فكانت لهم بيوتهم الفخمة وقصورهم الفارهة التي تعد تحفة خالدة من آيات الفن والهندسة والتصميم، فضلا عن دلالتها على الهيبة والعظمة وعزة المسلمين في زمنهم.
يقود مليك شاه ابن ألب أرسلان دولة السلاجقة في عملية البناء الإنساني للمسلمين في مجالات العلم والمعرفة والفقه والتاريخ والخرائط والطب والرياضيات والفلك والهندسة والإفادة بالمياه وغيرها، وفي الوقت نفسه لا يكفّ عن مواجهة الصليبيين الغزاة، والباطنيين الخونة، والمتنمرين من أقاربه للسطو على العرش، ويكون العقل قائدا لنشاطه وحركته (المؤمن كيس فطن)، كما يتحكم في عواطفه إلى أقصى حد ممكن أمام الأحداث الدقيقة، وهو الدرس الذي يحرص على تلقينه لأولاده وأسرته.
حبكة شائقة
تقوم نهضة السلاجقة في بنائها الدرامي على حبكة محكمة تحقق التشويق وتجذب المتابعة، حيث يتولى مليك شاه الحكم في ظروف صعبة ، وبعد قتال عنيف مع الصليبيين، وفي سياق مكايدة نسائية أُجبرت فيها زوجه المحبوبة وأم ولده على الخروج من القصر والنفي وهي حامل إلى قبيلة كينك بتهمة الخيانة والولاء لأهلها (القفجاق) .... ويتولى نظام الملك (الأتابك أو الحاج أو الأفندي، أو رئيس الوزراء بلغة اليوم) تربية الغلام الذي ولد بعد نفي أمه واسمه أحمد، فيغيره إلى سنجر، وينشأ الفتى مقاتلا ذكيا شرسا مخلصا للدولة، ويبقى سره مكتوما لسنوات طويلة، ويقدم بطولات فائقة، يعجب بها أبوه مليك شاه (الذي لا يعرفه) ولكنه يستشعر القرب الروحي منه من خلال الإعجاب بشجاعته وأخلاقه وإخلاصه للدولة ، ويبقى الفتى- عبر مواقف كثيرة مؤثرة-جنديا مستعدا للقيام بما يسند إليه من مهمات معظمها يكلل بالنجاح، دون أن يكشف سره لوالده الذي يحن إليه أو لغيره من رفاقه، وتفعل مثله الأم (باتشولو- أو وردة الوادي)، وتتابع حياة ولدها الآخر (محمد تابار) الذي حرمت من تربيته، وتذهب إليه متخفية حين يصاب إصابة خطيرة في إحدى المعارك، فتساعد على علاجه وهو لا يعرفها، كما تذهب إلى زوجها مليك شاه وهو في غيبوبة إصابة قاتلة، فتفك السيف من يده القابضة عليه بعد أن عجز الأطباء، وتتحمل ملاحقة تركان زوجة مليك شاه الأخيرة ومخططاتها الكيدية، فقد حملت أمومة حانية وقلبا إنسانيا محبا لزوجها وولديها وللناس جميعا، وهو قلب لا يمل من إنكار الذات وتقديم المعروف والولاء للدولة..
النار الإغريقية
يقارع مليك شاه الصليبيين في جولات ممتدة، تنتهي في معظمها بالنصر، ويواجه المتاعب قي بعض الجولات القتالية حين يواجهه العدو بما يسمى النار الإغريقية، ولكنه يؤكد على ذكاء العقل المسلم حين يبحث عن السلاح المضاد، أو الحصول على السلاح نفسه.ويظل يقاتل الصليبين حتى ينهي وجودهم الغاصب، ويفتح قلعة (كوفال) التي يتحصنون بها. والقلاع الصليبية وفقا لمخططات الدولة البيزنطية نقاط ارتكاز على الحدود الإسلامية أو في داخلها، ينقضون منها على المسلمين في قبائلهم أو مدنهم، لإحراز انتصارات ميدانية توسع من الأراضي التي يسيطرون عليها، أو تقضي على أكبر عدد من المسلمين بالذبح أو الأسر، فضلا عن التحكم في طرق القوافل التجارية، وفرض الإتاوات عليها أو حرمان المسلمين من المؤن والبضائع والسلاح.
العدو الخفي
وإذا كان الصليبيون يمثلون العدو الظاهر والمباشر ، فإن الباطنيين يمثلون العدو الخفي الذي ينقض فجأة، أو يدبر المفاجآت لجيش السلطان مليك شاه، أو يزود العدو الظاهر والمباشر بالأخبار والمعلومات التي تعقد الأمور بالنسبة لجيش الدولة ومقاتليها، والباطنيون هم أتباع حسن الصباح، ويسميهم بعض المؤرخين بحركة الحشاشين، فقد كانوا كما تقول بعض الروايات يتناولون مخدر الحشيش ليساعدهم على الاستمرار في القتال واقتحام المعارك الصعبة، وحسن الصباح كان موظفا بالدولة السلجوقية مكلفا بالرسل الخارجيين (يشبه وزير الخارجية الآن)، وينتمي في السر إلى الطائفة الإسماعيلية، وأوتي ذكاء نادرا ومهارة في القتال، ومقدرة على عقد التحالفات مع الأعداء وخدمة قضيته الشريرة في تقويض الدولة، وأثبتت الحوادث أن وجوده داخل دولاب الدولة مثّل نقطة ضعف خطيرة كلفت مليك شاه وجيشه متاعب كثيرة، فضلا عن قدرة الصباح على تجنيد تاج الملك الذي يمثل الآن رئيس الديوان السلطاني. وقد نجح الصباح بعد كشف خيانته في السيطرة على بعض المدن، وتعويق مهمة الجيش السلطاني بمؤمراته وخططه، وكانت دعوة الصباح دعوة فلسفية كلامية تمثل الجانب المعنوي والنظري في برنامجه، أما الجانب العملي فكانت تحدوه ثورة إلحادية حقيقية، وكان شعار الحسن الخفي الواقعي: "أنه لا شيء حق، وكل شيء مباح". بيد أنه كان يتشح بثوب من الورع الفياض، ويسبغ على آرائه وخططه صبغة دينية عميقة، ويستظل بلواء الإسلام الحق والإمامة المقدسة، ويتظاهر بأنه لا يبغي سوى توطيد كلمة الدين وقمع البدع والضلال. وكان السلاح السري المدهش الذي وضعه لطائفته أنفذ الأسلحة وأمضاها.... (انظر: محمد عبد الله عنان، في كتابه : تراجم إسلامية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2000م، ص 45)
ويشير المؤرخ الكبير الأستاذ عنان وهو يبدي نوعا من التعاطف مع شخص الصباح إلى لجوئه في تحقيق خططه وغاياته إلى وسائل مروعة، وأساليب مثيرة يأباها الولاء والشرف والخلق الأمثل، وهي نوع من السياسة الميكافيللية، قبل عصر الميكافيللية، وهي سياسة لا تحجم اليوم عنها ولا تأنف من اتباعها في عصرنا دولة عظيمة قوية. وإذا كان قد اختار هذه الأساليب الدموية لإنشاء دولته وتوطيد سلطانه، "فإنه لم يكن يقصد فيما يرجح أن تنحدر الإسماعلية إلى ذلك المعترك الإجرامي الذي انحدروا إليه على يد خلفائه، حتى غدوا غير بعيد جمعية من المغامرين والقتلة السياسيين الذين لا تحدوهم أية غاية مثلى" (السابق، ص 49. وأظن أن المسلسل وضعه في المكان اللائق به وهو مكان الخائن عدو الإسلام، ظهير الصليبيين الذين لفظوه في نهاية المطاف، ليذهب وحيدا بعد القضاء على أتباعه إلى قلعة الأموت، بوصفه نفاية من نفايات الإنسانية !
سيف المظلومين
ومهما يكن من أمر، فقد قدم المسلسل صورة للإسلام الحي الذي لا يستسلم أمام الصعوبات والعقبات، وطالما كان من يحملونه، حقا وصدقا يعبرون عنه في أخلاقهم وسلوكهم، فهم بلا ريب منتصرون، ولعل ذلك ما دفع مليك شاه بعد انتصاره على الصليبيين وفتح قلعة كوفال، وهزيمة قائدها المجرم ماركوس، أن يقول وهو يقطع رقبته مشيرا إلى سيفه:
"هذا السيف ليس سيف السلطان مليك شاه، ولكنه سيف المظلومين الذين ظلمتهم، ونكلت بهم، وهو السيف الذي لا يسلط إلا على الظلمةمن أمثالك".
إن الرؤية الإنسانية للإسلام كانت من وراء تحوّل بعض قادة العدو إلى الإسلام لما رأوا فيه من عدالة ونخوة ومروءة وقيم عظمى، وقد رأينا على سبيل المثال القائد الصليبي ألبرت وتحولاته، الذي اكتشف خيانة قومه، ووفاء أعدائه(المسلمين)، ويتعجب من رئيس أكبر دولة في العالم يومئذ وهو السلطان مليك شاه، كيف لا يملك في خزينته الشخصية غير أربعة أشياء ليس من بينها المال. أما خزينة الدولة كما يخبره مليك شاه، فهي حق لليتامي والفقراء، لا يدخلها درهم واحد جاء ظلما. ويؤكد له أن المسلمين لا يطمعون في أرض الآخرين وأموالهم، ولكنهم يواجهون الظلم والظالمين. وأن العرش والقصر أمانة عندنا، بينما أخلاق الصليبيين غدر وخيانة وعدوان ويبيعون بعضهم إذا اقتضى الأمر.
لسان القلب
لاريب أن نهضة السلاجقة قدمت أبا حامد الغزالي في مواقف رائعة، وهو يرد على الباطنيين، ويشرح مسائل العلم، ويؤسس المدارس، ويعبر عن مفاهيم الإسلام بطريقة جذابة (حديثة مع ألبرت حول لسان القلب، عين القلب، عقل القلب)، والتأمل في الكون.
أيضا فإن صورة عمر الخيام في المسلسل اختلفت عن الصورة الشائعة، فهو شاعر رقيق يمس شعره شغاف القلب، وهو عالم كبير في الفلك والحسابات، وهو صديق حميم للسلطان.
المرأة أمومة
لن نتوقف عند الأطماع التي تحكم تصرفات بعض الأقارب في الوصول إلى العرش، ووضع مصير الدولة على الحافة بسبب جشعهم وأنانيتهم، فحديثها في كل زمان ومكان معروف لا يسر، ونشير في عجالة إلى دور المرأة في رعاية الزوج المجاهد وتربية الأبناء على حب الدين والوطن، وحمل السلاح إذا اقتضت الضرورة للذود عن الديار في شجاعة ملحوظة، وسبقت الإشارة إلى باشولو التي صبرت على محنتها، ولم تتوقف عن العطاء حتى عاد إليها زوجها، وزبيدة الزوجة الأولى التي قامت بمهام رجل الدولة في غياب زوجها ، ودافعت عن العرش بالسيف والعقل، وتورنا زوج سنجور، الوفية المحبة المقاتلة، أما المرأة الأخرى الغيورة، صانعة الفتنة مثل سفرية وتركان، وجوهر، فقد حصدن الخسارة، وفاءت إحداهن إلى الصواب، وندمت الأخرى على سلوكها، وهزمت الثالثة بعد انكشاف خططها. المرأة هنا محور خير، ومحور شر أيضا، ولكن الأول يبقى، ذخرا للإنسانية والأوطان،
نهضة السلاجقة العظمى سلوى للعرب المهزومين المقهورين، بمشاهدة انتصارات سنجر ورفاقه، ومليك شاه ورجاله.