ثقافة حديثية ميسرة -17
3- المرجئة.. من أهل البدع..
وهذه بدعة قديمة جديدة في حياة المسلمين. بل لعلها تنتشر في هذا العصر أكثر على ألسنة الكتاب الذين يسمون أنفسهم "مجددين". كما على ألسنة الكثير من العامة من المتفلتين.
ومعنى الإرجاء في اللغة: التأخير..
والمعنى الذي أريد في عنوان هذه البدعة، هو تأجيل الحكم على المكلفين، بجنة أو نار إلى يوم القيامة. والمقصود هنا تأجيل الحكم على العام، وليس على الأعيان.
وقد قسم العلماء الإرجاء إلى نوعين: إرجاء سياسي، وإرجاء عقيدي.
أما الإرجاء السياسي : فهو توقف طائفة من الصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم من التابعين، على الحياد من الفتنة التي وقعت بعد مقتل سيدنا عثمان رضي الله عنه. فلم ينحازوا إلى أحد. ولم يصوّبوا فريقا ولم يخطئوا آخر. وقالوا نرجئ الحكم في هذا إلى الله. قال: العلماء ومثل هذا الإرجاء من الورع في الدين، ويتلو أصحاب الموقف هذا قول الله تعالى (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
والإرجاء الآخر الإرجاء البدعي المذموم، الذي كان عنوانه العام "لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة"
فإذا كان الإرجاء في حقيقته "تأجيل أو تأخير الحكم" فإن هذا العنوان "لا يضر مع الإيمان طاعة" يتضمن إصدار حكم وحكم شنيع. يقول زهير فتأمله..
فحقيقة الإرجاء من تعريفه اللفظي: التوقف عن إصدار الأحكام بحق المكلفين، إلى جنة أو إلى نار.. فكل من أصدر حكما مخطئا أو مصيبا، لم يعد من أهل الإرجاء، في حقيقة الأمر، وإن كان قد درج عليه الدارسون.
ولقد تواترت آيات القرآن الكريم أن الكافرين والمشركين من أهل النار. وأن الله وعد وأوعد، وأن أهل الكفر والجحود بعمومهم من أهل النار، والعياذ بالله..
وهنا مسألة كثيرا ما تخفى علينا نحن أبناء هذا الجيل، وهي هل يجوز أن نحكم على كافر أصلي، أو من نعتقد أنه مرتد، بشخصه أنه من أهل النار؟؟
نعم نحن نؤمن إيمانا راسخا مطلقا (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ يصلونها يوم الدين) ونؤمن (إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا) ونؤمن أن الله ذكر أشخاصا بأعيانهم وأسمائهم أنهم من أهل النار، فذكر أبا لهب وزوجته حمالة الحطب..
أما غير الذين سماهم الله أنهم من أهل النار، فلا نسم أحدا بعينه أنه في جنة أو في نار ، ولا نتألى على الله في أحد من خلقه أبدا، فاحذر يا رعاك الله. وهذا من التوقف عند حدود الله. فلا أحد منا يعلم على ما مات عليه عبد، في خصوصية علاقته بالله. وهذا ليس تمييعا للدين، ولكنه وقوف عند حدود الله، ومراعاة للأدب معه تعالى. لا نحكم لعبد بالمطلق بجنة أو بنار، غير الذين بشروا بالجنة أو بالنار.
فيبقى كلامنا في الإرجاء متعلقا على العناوين العامة للجماعات والأفراد بأوصافهم لا بأسمائهم..
وسنلاحظ في حديثنا عن بدعة الإرجاء أن البدع تنشأ كحلقات السلسلة يأخذ بعضها بعناق بعض. ولما نشأت في الأمة المسلمة بدعتا "المعتزلة" و"الخوارج" الذين قالوا: إن العمل قرين الإيمان، فكل من يزعم أنه مؤمن ولا يعمل صالحا، ويرتكب المعاصي. ليس مؤمنا" !!
الخوارج قالوا : كل من لا يحمل معهم السلاح هو كافر ومن هنا جاء استحلالهم للدماء وللأعراض "سبوا المسلمات" وللأموال.. "فهل يذكرنا هذا ببعض الناس في هذه الأيام"؟؟
المعتزلة قالوا : كل مسلم يرتكب المعاصي ولا يلتزم بالطاعات، مخلد في النار، ولكن صعب عليهم أن ينبذوه بالكفر، فقالوا هو في منزلة بين المنزلتين.. بين الكفر والإيمان، وكان هذا العنوان من أصول بدعتهم.
وفي مواجهة هاتين البدعتين نشأت بدعة المرجئة التي نتحدث عنها، فقالوا: الإيمان هو مجرد الاعتقاد، ولا يضر مع الإيمان معصية. وهكذا فقد تطرفوا كما تطرف أضداهم..
وكان مذهب أهل السنة والجماعة في هذا أنهم أكدوا جميعا أن الإيمان "قول وعمل" كما عبر عنه فريق منهم، أو عدوا الإيمان مجرد "عقد القلب" والعمل ثمرته وكماله. وكلما سمعت أن أهل السنة والجماعة مختلفون في تعريف الإيمان، فلا تعول عليه. وكثيرا ما يعبر الناس عن الحقيقة الواحدة بالطرق والألفاظ المختلفة.
وأحب أن أوضح حقيقة في منهجي في هذه الدراسة، أنني أتبع المنهج التقريبي ، بين أقوال أهل الحق. ذكرت في مقالة سابقة أهل التفويض وأهل التأويل، بالنسبة لآيات الأسماء والصفات، وقلت كلاهما يتفق على تنزيه الله تنزيها يليق بجلاله، وأنه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وأذكر اليوم مسألة الاختلاف اللفظي – وأؤكد اللفظي- في تعريف الإيمان هل قول وعمل ويزيد وينقص، كما قال كثير من الأئمة موفقين مصيبين، أو هو عقد القلب فقط، وأن هذا العقد القلبي كماله فيما تثمر شجرة الإيمان من أعمال صالحة، أو فيما يتجنب من انتعشت في قلبه من معاص أو آثام..
أما الذين يحبون إثارة التهارش بين المسلمين، بالتعصب لقول دون قول، ولإمام دون إمام فهم إلى السفه وضياع البوصلة أقرب.
قال الخوارج : تارك الفريضة ومرتكب الكبيرة كافر مستباح الدم والمال.. وعلى هذا الأساس، استباحوا دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم..
قال المعتزلة: تارك الفريضة ومرتكب الكبيرة في منزلة بين منزلتي الكفر والإسلام وهو مخلد في النار، ولم يسألوا عمن تاب أو عمن زلّ وأناب..
وقال المرجئة: الإيمان مجرد عقد في القلب، وحالة من التصديق القلبي، ولا يضر صاحبه ترك طاعة أوارتكاب معصية.
وقال أهل السنة والجماعة: الإيمان اعتقاد وقول وعمل، أو اعتقاد ثمرته العمل، والمسلم يدخل الإسلام باعتقاده، ثم يصدّقه وينميه بالتزامه.
ويتفق أهل السنة والجماعة، أن المسلم الذي يُخل بالواجبات، أو يرتكب المعاصي والكبائر، مسلم فاسق، متوعد بعذاب الله، موعود بعفوه ومغفرته إذا تاب. فهو يبقى معلقا بين خوف عليه ورجاء فيه.
وما زالت بدعة الإرجاء تنتشر في هذا الزمان، وكلما سألت مسلما عن طاعته وفريضته، أو عما يرتكب من موبقات، رد عليك لا مباليا أو مستخفا على طريقة أهل الإرجاء: الإيمان في القلب!!
ومن الإرجاء المنتشر بين الناس الاستخفاف بأمر الدين، وبأمر الآخرة وبأمر الحساب وبأمر الجنة والنار، ويعتقد أتباع هذه المدرسة المعاصرين، أن كل عملة عند الله تروج، وكل اعتقاد في الله يقبل، وكل نهج منحرف عن الصراط السوي، له عند الله سبيل...
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا)
لاحظ تعانق الاعتقاد مع العمل في القرآن الكريم، قال هنا في سورة النساء: الذين كفروا وظلموا ..
وقال في سائر الآيات (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ... ) و لم ينفك ذكر الإيمان عن العمل إلا في بعض السياقات.
وسوم: العدد 978