منصف المرزوقي كما قرأت له
عبد العزيز كحيل
لئن كان الدكتور محمد مرسي – ثبّته الله وعجّل فرجه – أوّل رئيس عربي اعتلى سدّة الحكم عبر صناديق الانتخاب الشفافة فإن الدكتور منصف المرزوقي قد سبقه إلى رئاسة تونس بناء على اختيار الجمعية التأسيسية المنتخبة بحرية لأول مرة في بلادنا الممتدّة من المحيط إلى الخليج ، وقد انتهيتُ للتوّ من قراءة كتاب المرزوقي الأخير " اختراعُ ديمقراطيةٍ " – بالفرنسية – فرأيت أن أرسم للرجل صورة تنطق بها آراؤه ومواقفه.
مازال منصف المرزوقي ذلك المناضل الشرس المناهض للدكتاتورية والمدافع عن حقوق الانسان الذي عرفناه طيلة سنوات من خلال ظهوره على القنوات العربية ، لا يداهن الحكّام المستبدّين ولا أعوانهم بل ينحاز للشعوب وقضاياها ، وكان من أوّل المنادين بالإطاحة بالأنظمة الشمولية والجمهوريات الوراثية ، وبقي بعد أن أصبح رئيسا وفيّا لمبادئه متمسّكا بأخلاقه في التواضع والتواصل الطبيعي مع الناس والانتصار للطبقات المحرومة والمظلومة ، وهذه مواقف أكّد في كتابه عدم حياده عنها أبدا ، ومن شأن ذلك طمأنة الجماهير العربية التي ألفت رؤساء وملوكا وأمراء هم أبعد الناس عن نمط حياتها وأقربهم إلى آلهة ليس عندها خصائص البشر.
* ديمقراطي حقيقي : خلافاً لزملائه في اليسار التونسي تولّىّ المرزوقي الدفاع عن الاسلاميّين حين نالهم بطش نظام بن علي في مطلع التسعينيات من القرن الماضي انطلاقًا من موقفه الرافض لانتهاك حقوق أيّ إنسان مهما كان انتماؤه حتى لو كان خصمًا سياسيًا أو إيديولوجيًا ، في حين أيّد غلاة اليساريّين والعلمانيّين الرافعين لشعار الديمقراطية والحريات والمناهضين -نظريًّا – للحكم الشمولي قمع الإسلاميّين للتخلّص منهم ، ولم يؤيده من الوجوه البارزة في المعارضة آنذاك سوى د. مصطفى بن جعفر رئيس المجلس التأسيسي حاليًا ، وقد أدّى عدم تعصّبه ضدّ الاسلاميّين إلى إبرام اتفاق ثلاثي – مع حركة النهضة وحزب التكتّل الذي أسّسه بن جعفر - منذ عشرين سنة يرسم مستقبل تونس بناء على نقاط التقاء بين الأطراف الثلاثة ، وهو ما أدى إلى فوز هذه الأطراف في أوّل انتخابات بعد الثورة ومكّنها من تسيير الفترة الانتقالية بكلّ مخاطرها وتحدياتها.
* متمسّك بالعلمانية : يظهر اعتدال المرزوقي في واقعيته التي قادته إلى التعامل مع طرف إسلامي يختلف معه في المرجعية الإيديولوجية ، ذلك أن الرجل لا يتنازل عن علمانيته أبدا ، بل يعلن تمسّكه الشديد والصريح بها ،يرفض إقحام الدين في السياسة كما يرفض كل ما يخالف الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ولو كان أحكامًا ثابتة بالقرآن والسنة ، ويذكر بهذا الصدد أن الخلاف مع الاسلاميّين يتمحور حول أربع مسائل كبرى لا يمكنه التنازل عنها أو المساس بها ، هي : المساواة التامة بين المرأة والرجل وزواج المرأة المسلمة بغير المسلم وحرية تغيير الدين والتبنّي ، وهي مسائل يعلم كلّ مسلم أنها من قطعيّات الشريعة التي لا اجتهاد فيها ، وهنا نقف على علمانية د. المرزوقي الأصيلة المتجذّرة فيه ، فهو يعزو تمسك حركة النهضة بالأحكام الشرعية في هذه المسائل إلى تشدّد بعض الأطراف فيها وليس لأنها ممّا فصل فيه القرآن والسنة ، والحقيقة المؤسفة هنا أنه – وهو رئيس دولة مسلمة - لا يعير أدنى اهتمام لقدسية القرآن والسنة إلاّ في حدود عدم تدخلهما في شؤون الدنيا ، أي انه يتبنّى القراءة الكَنسية للإسلام المحبَّبة عند العلمانيّين والتي تحصره فقط في الضمير الفردي والشعائر التعبدية وتُقصيه من مجالات الحياة جميعًا ، وجدير بالذكر أن المرزوقي كتب مقالا قبل الثورة بعنوان : لا حلّ في " الإسلام هو الحلّ " - يتناول فيه بتهكّم واضح هذا الشعار الذي يرفعه الإسلاميّون ، ويتساءل باستنكار كيف يحلّ الاسلام مشكلة حماية البيئة مثلا ؟ وهو ما يؤكّد تجذّر الرؤية العلمانية في نفسه بحيث يتناول الاسلام تتناولا تقنّيا كأنه فلسفة أو منهج وضعي ، ولا يلتفت إلى بُعده السماوي المقدّس ، ولا يعرف شيئا عن شموله لقضايا الدنيا والآخرة سواء ، وكأنْ لا صلة له بأبجديات الثقافة الإسلامية.
*علاقته بالدين : لو كان د. المرزوقي رجلا عاديا ما اشتغلتُ بعلاقته بالإيمان والعقيدة لكنّه رئيس دولة مسلمة تبقى لها صلتها الوثيقة بأحكام الشرع مهما حاولت العلمانية المتوحّشة صرفها عنها بالإكراه والتحريف منذ استقلال تونس ، والحقيقة أن المرزوقي لم يُثر هذا الموضوع في كتابه بناء على توجّهه العلماني الذي يُقصي مسائل الدين من التناول العام لأنّ ذلك لا يهمّ أحدا غيره ، وإنما اكتفى بإشارة عابرة ينفي فيها إلحاده الذي يقول إنّ بعض التونسيّين يرمونه به ، وأكّد في عبارة مختصرة ما يفيد أنه مؤمن بطريقته الخاصة ، يقرأ ( نعم ، هكذا ) للحلاج وابن عربي (وهما من غلاة الصوفية القدامى ، لا علاقة لأفكارهما بالإسلام عند أكثر العلماء ).
*معجب جدا ببورقيبة : إذا كان رفض الرئيس المرزوقي لنظام بن علي حاسما بسبب أنه مجرّد مافيا إجرامية فهو في المقابل يعلن إعجابه بالحبيب بورقيبة ويكرّر ذلك ويتلطّف كثيرا بنظامه وينفي عنه صفة الدكتاتورية وينتقده برفق واضح في مجال خنق الحريات ، كلّ ذلك لأنه حرّر المرأة ( أي من المرجعية الاسلامية ) وقاد تونس إلى الانفتاح ( أي إلى الانسلاخ من القيم الذاتية وتبنّي المنظومة الغربية قيَمًا وسلوكًا )...
أظنّ أن الموضوعية التي يحاول المرزوقي التحلّي بها سقطت هنا ضحية لمنهجه العلماني الأصيل المنحاز دائما إلى مخاصمة الإسلام والاصطفاف بشكل ما مع مناوئيه أمثال بورقيبة وأتاترك ، ويكفي أن أسجّل أن الرئيس التونسي تعهّد في كتابه بأن التفرقة بين الرجال والنساء في شواطئ البحر لن تحدث أبدا ما دام رئيسًا ، كما تعهّد قبل ذلك بصفحات بأن يترك الحرية التامة لمن أراد شرب الخمور ولمن أرادت ارتداء الحجاب .
وأشير إلى أن د. المرزوقي قد حلّل في كتابه ظاهرة السلفية في تونس تحليلا علميّا على جانب كبير من العمق ، بعيدا عن التناول السطحي والتهويل الإعلامي.