من جديد: «مكملين» تنطلق من أرض الله الواسعة!
عادت قناة «مكملين»، أو أوشكت على العودة، فلم أعد مطلعاً عليها؛ فقد أزلتها بعد قرار الإغلاق، ليكشف انطلاقها من خارج تركيا فشل العسكر في إدارة الملفات السياسية، فغني عن البيان أن ممثلي القاهرة في المباحثات المشتركة، هم ضباط، لتنتقل السياسة من ضباط الشرطة (في عهد مبارك)، إلى ضباط الجيش في عهد السيسي!
لم تطرح قضايا استراتيجية في المباحثات بين الدولتين، فقد بدا كل ما يشغل أهل الحكم في مصر هو قنوات الإخوان، وهو مصطلح يطلق مجازاً على قنوات تركيا، كما يطلق على كل معارضي السيسي، حتى لحق الاتهام بشيوعيين مثلاً، وعندما استشعر القوم الحرج من هذا «الاتهام المزيكا»، اخترعوا اتهاماً جديداً هو «التعاون مع جماعة إرهابية من أجل تحقيق أهدافها»، واتهموا به أحد الصحافيين المسيحيين الذين تم القبض عليهم بتهمة التعاون مع قناة «الجزيرة» في موضوعات وثائقية!
«الشرق» مملوكة لأيمن نور، وهو ليس نكرة ليجوز معه الاتهام بأنه إخوان، لكن لا أحد يستشعر الدهشة من هذا الاتهام لأن الأمر كله هزل وليس بالجد، و»مكملين» متهمة من جانب الإخوان بأنها قناة تعادي القيادة الرشيدة للجماعة.
حسين يضحك
عقب وفاة الرئيس محمد مرسي استضاف محمد ناصر، الأمين العام للجماعة محمود حسين، والذي أدهش المشاهدين بثباته، وكان عنواناً لرضا المؤمن بقضاء الله، إذ كان منشرح الأسارير، باسم الثغر، وكنا وقتئذ نشعر بالقهر، لهذه النهاية للدكتور محمد مرسي، وبعيداً عن كونه أول رئيس مصري مدني منتخب، فقد كانت النهاية أليمة من منطلق إنساني، فالرجل كان في قفص محاكمته الزجاجي العازل، يبدو عليه التعب والارهاق، في هذه الجلسة كما في جلسات سابقة، وسبق له أن طلب من قاضيه أن يسمع له، فلم يهتم بطلبه، وتجاوز القضاة معه فكانوا ينادونه باسمه مجرداً بهدف اهانته، وكأن هذا مما يلزم في المحاكم، لكن العالم شاهد على الهواء مباشرة عبارات التقدير والاحترام، التي عامل بها رئيس المحكمة الرئيس المعزول ونجليه ووزير داخليته!
كانوا قد منعوا العلاج عن الرئيس محمد مرسي، وكان طبيعياً بعد هذا أن يقع في القفص، ولا يكترث بوقوعه رئيس المحكمة، الأمر الذي أصابنا بالكمد، وامتد التعاطف ليشمل أناساً لم يكونوا من مؤيديه من قبل، وبينما نحن في هذه الحالة، التي ربما كان سبباً فيها قلة اليقين، ونقص في جرعات التدين، كان الدرس من الرجل الأول في الجماعة منذ سجن المرشد ونوابه، حيث ظهر في كامل الوجاهة، وبلغ ثبات المؤمن الواثق في نصر ربه درجة متقدمة، ففلتة من الزعيم الإخواني ضحكة سبقتها ابتسامة عريضة.
ولأن المشاهد جزوع بطبعه، وكان أنصار الأمين العام للجماعة يدركون أن معظم المشاهدين لم يصلوا بعد إلى هذه الدرجة من «الرضا»، حيث سمو الروح، وسكون الجوارح، فقاموا في خطوة استباقية بالهجوم على قناة الأعداء «مكملين»، وعلى المذيع الليبرالي الحانق على كل ما هو إسلامي محمد ناصر؛ فهو من أضحك أمينهم العام في هذه الظروف، مع أن ابتسامة ناصر كانت رد فعل، وربما انطبعت على فمه بعد أن سرت هذه الروح الايمانية في الإستوديو، فشملته في لحظة تجل، يعرفها أهل الله المتصوفة، ومن ذاق عرف، ومن عرف وصل، ومن وصل اتصل!
وهذه الحملة تثبت لكل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، أن «مكملين» ليست قناة إخوانية، فالقناة الإخوانية الوحيدة، التي تبث من تركيا، لم يعترض عليها القوم في مباحثاتهم مع الجانب التركي، وكأنها تبث من مدينة الإنتاج الإعلامي في القاهرة. فكان الطلب الأول في المباحثات هو تخفيض سقف المعارضة، فلما خضع الجانب التركي بالقول، ليطمع الذي في قلبه مرض، كان الطلب الثاني وقف ثلاثة من المذيعين في «الشرق»؛ معتز مطر، وهشام عبد الله، وهيثم أبو خليل، ووقف اثنين في «مكملين» محمد ناصر، وحمزة زوبع، في حين لم يتم إيقاف أحد في القناة الثالثة، التي هي قناة الإخوان، يبدو أنها ملتزمة بمعايير الأداء الإعلامي المتعارف عليها دولياً.
وعندما رأى معتز مطر، أن البديل في منصات التواصل الاجتماعي، «يوتيوب» و«فيسبوك» و«تويتر»، تعسف الجانب التركي، فكان قراره بالمنع التام أو الموت الزؤام، وبغلق المجال العام كله في وجوههم!
انتصار الجانب المصري
ومنذ البداية كنا نلفت الانتباه إلى أن مثل هذا الإجراء قد يدفع هذه القنوات للهجرة، فأرض الله واسعة، ولكن زهو الانتصار الأمني بما تحقق، جعل الجانب المصري يسقط من حساباته هذه الخطوة، وهاجر معتز إلى مدينة الضباب ليقدم برنامجه على قناته عبر «يوتيوب»، وليس معلوماً ما إذا كان الجانب التركي هو من طلب اغلاق «مكملين»، أم أن ادارتها وجدت أن هذا الاغلاق آت لا ريب فيه، فقالت: بيدي لا بيد عمرو، وكلما اقتربت سنة 2023، حيث الانتخابات الرئاسية في تركيا، بدا اردوغان مستعداً لتقديم المزيد من التنازلات، والإفراط في تقديمها أخذاً بنظرية رئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو «صفر مشاكل خارجية»، وله في ذلك مآرب أخرى وهو قطع الطريق عليه كمرشح محتمل للرئاسة، فضلاً عن أن المعارضة التركية تعتبر أن فتح البلاد لضحايا الاستبداد في بلدانهم مدخل للهجوم على أردوغان وحكومة العدالة والتنمية.
وفي ذروة الاندفاع لعلاقة مع أهل الحكم في مصر، لم يهتم الرئيس التركي بأن يطالب بإغلاق محطة تلفزيونية انطلقت من القاهرة خصيصاً بهدف الهجوم عليه وهي قناة الإمارات «تن»، فبدا لا يهتم بصغائر الأمور من أجل الهدف الكبير بترسيم الحدود البحرية مع القاهرة، بحجة أن مصر هي المستفيد منه، ويبدو أنه لا يعرف طبيعة الحاكم العسكري المصري. وفي اندفاعه نسى أنه يفرط في قوة ردع مهمة هي هذه القنوات، لأن أي صريخ ابن يومين، يدرك أن هذه المصالحات، ليست أكثر من هدنة، فاذا عاد ترامب بعد عامين، عادت ريمة لعادتها القديمة، فماذا سيكون في يد أردوغان من أوراق القوة إن استمر في الحكم؟!
وكما أن للجانب التركي حساباته، فليست قنوات المعارضة المصرية سبايا حرب، فكان اغلاق «مكملين»، ليرقص القوم في القاهرة، إعلاماً وذباباً إلكترونيا بهذا الانتصار، الذي يعوض الهزيمة في أعالي البحار، حيث يشيد سد النهضة، تماماً كما جرى تصوير الاستجابة التركية المبالغ فيها على وقف اعلاميين، باعتبارها انتصاراً على الأتراك والإخوان معاً، ربما تعوض هزيمة جيش طومانباي على يد العثماني سليم الأول!
لا تنس أن أحد الصحافيين من جماعة المولاة، قال إن السيسي يمثل طومانباي، وأردوغان من سلالة سليم الأول، وحان موعد «الأخذ بالثأر» والرد على الهزيمة التاريخية لجيش الأول، ولم يسكت حتى ذكرناه بمصرع طومانباي، وبأنه كان مملوكياً يقود جيشاً من المماليك، فهل هم يمثلون الدولة المملوكية؟!
لا بأس، فللجانب التركي حساباته، وهو حر، لكن «ناصر» وصحبه أحرار أيضاً، وقد خرجوا من مصر أول مرة إلى تركيا، لأن فيها حاكماً لن يظلموا عنده، وإذ تغيرت القواعد، فقد هاجروا إلى أرض الله الواسعة، استعداداً لأن تنطلق مكملين هذه المرة من أوربا، حيث سقف الحرية هو الالتزام بالقواعد المهنية، ولولا أنها العقلية العسكرية الشقيقة الصغرى للعقلية الأمنية، والسعي إلى تحقيق انتصار سريع، لوجد الجانب المصري أنه من الأفضل الاتفاق على سقف للممارسة تحت الرقابة التركية، دون تكميم الأفواه بالكامل، وإلغاء برامج من بابها، ووقف مذيعين عن العمل!
إنها أخطاء إدارة العسكريين للملفات السياسية، في بلد تم تغييب السياسة فيه تماماً، فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة، مع أنه لا صوت هناك ولا معركة!
السياسة هي فن الممكن!
وسوم: العدد 985