متى وكيف بدأ فعلاً حال الأنحطاط العربي الراهن؟!
في مثل هذا الشهر من كل عام تتجدد المقالات والآراء عن حرب العام 1967 وكأنها آخر الحروب النظامية العربية مع دولة الاحتلال الإسرائيلي والتي من بعدها حصل حال الضعف والإنهيار في عموم المنطقة! فهل هذا الذي حصل فعلاً؟!.
إنّ الواقع العربي الراهن ليس هو بمحصلة للهزيمة العسكرية العربية في العام 1967 بل هو ثمار لمسلسل إنحداري تعيشه المنطقة العربية منذ اختار أنور السادات السير في المشروع الأميركي/الإسرائيلي الذي وضعه وأشرف على تنفيذه هنري كيسنجر بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973. ومشروع كيسنجر مع مصر/السادات كان حلقة في سلسلة مترابطة أولها إخراج مصر من دائرة الصراع مع إسرائيل (وبالتالي محاولة عزلها عربياً)، وآخرها تعطيل نتائج حرب عام 1973 الاقتصادية والسياسية والعسكرية كلّها، وذلك من خلال إشعال الحروب العربية/العربية من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي مروراً بالحرب اللبنانية في العام 1975 وتوريط أكثر من طرف عربي فيها لسنوات عديدة، خاصة سوريا ومنظمات المقاومة الفلسطينية.
وكانت تلك الفترة (بعد حرب 1973) الأخطر بالنسبة للعرب، لأنها أوجدت بذوراً لكل ما ظهر لاحقاً على سطح الأرض العربية من فتن داخلية وصراعات عربية بينية وهيمنة أجنبية. فكانت آثار مرحلة أنور السادات وما بعدها، ليست فقط سلبية لجهة تعطيل دور مصر العربي بل أيضاً بفتح الأبواب العربية كلها لحروب داخلية وحدودية واختلال الجسم العربي بأسره.
إنّ جمال عبد الناصر استطاع أن يجعل من هزيمة عام 1967 أرضاً صلبة لبناء وضعٍ عربيّ أفضل عموماً، وكرّس ذلك في قمّة الخرطوم من العام نفسه، والتي شهدت توافقاً عربياً على كيفية على دعم دول المواجهة مع إسرائيل، وعلى رفض المفاوضات أو الصلح مع إسرائيل أو الأعتراف بها قبل تحرير الأراضي المحتلة، كما أشرف ناصر على إعادة بناء القوات المسلّحة المصرية وخاض حرب الاستنزاف على الجبهة المصرية والتي مهّدت الطريق أمام حرب عام 1973.
وكان ناصر يردّد دائماً: "القدس والضفّة قبل سيناء، والجولان وغزّة قبل سيناء"، وهو "عاش من أجل فلسطين ومات من أجلها"… كما كان الشعار الذي رفعه شعب فلسطين عقب وفاة جمال عبد الناصر عام 1970. ففي 28 أيلول/سبتمبر 1970، مات عبد الناصر بعد أيامٍ طويلة من الإرهاق والسهر المتواصل لوقف سيلان الدم العربي في شوارع الأردن آنذاك نتيجة الصراع بين الجيش الأردني والمنظمّات الفلسطينية، ومن خلال جهدٍ كبير قام به ناصر لجمع القادة العرب في قمّة طارئة بالقاهرة.
فعبد الناصر أدرك هدف حرب 1967 الذي أشار إليه وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك موشي ديان والرئيس الأميركي السابق جونسون، بضرورة تخلّي مصر عن دورها العربي، وإعادة سيناء لها مقابل ذلك، فرفض ناصر استعادة الأرض عن طريق عزلة مصر وتعطيل دورها العربي التاريخي. كما أدرك عبد الناصر مخاطر الصراعات العربية/العربية التي كانت سائدة قبل حرب 67، فأوقف تدخّل الجيش المصري في اليمن وأقام "تحالف المدفع والنفط" الذي تأكّدت أهميّته في حرب عام 1973.
عبد الناصر أكّد بعد حرب عام 1967 حرصه على تعميق الوحدة الوطنية في كلّ بلدٍ عربي، وعلى رفض الصراعات العربية البينية التي تخدم العدوّ الإسرائيلي (كما فعل في تدخّله لوقف الصراع الداخلي في لبنان عام 1969 بعد صدامات الجيش اللبناني مع المنظّمات الفلسطينية)، فإذا بالأرض العربية بعد غيابه تتشقّق لتخرج من بين أوحالها مظاهر التفتّت الداخلي والصراعات المحليّة بأسماء مختلفة، ولتبدأ ظاهرة التآكل العربي الداخلي كمقدّمة لازمة لهدف السيطرة الخارجية والصهيونية.
ورغم مرور أكثر من نصف قرنٍ من الزمن على غياب جمال عبد الناصر، فإنّه استمرّ حيّاً في ذاكرة معظم العرب الذين عاصروا فترة قيادته للأحداث العربية بحلوها ومُرّها. فيكفي لهؤلاء أنّ ناصر كان رمزاً لوحدة الهموم والآمال العربية، ولصرخة الكرامة والعدل والحرّية ضدّ الاستعباد والاستعمار والظلم والاستغلال. ويكفي شهادة لمقدار قيمة عبد الناصر ومحبّته في عموم المنطقة العربية ما حدث في مناسبتين: يوم استقالته بعد حرب 1967 (مظاهرات 9 و10 يونيو/حزيران)، ويوم وفاته في 28 سبتمبر/أيلول 1970، حيث خرجت ملايين من الجماهير العربية إلى الشوارع، من المحيط إلى الخليج، ومن دون دعوة من أيّ جهة، لتؤكّد تأييدها وحبّها الجارف لجمال عبد الناصر.
فنحن نعيش الآن ليس نتائج الهزيمة العسكرية لحرب العام 1967، بل مخلفات وتداعيات "الزمن الإسرائيلي" الذي جرى اعتماده بعد رحيل ناصر المفاجئ عام 1970، ثمّ بعد الانقلاب الذي حدث على "زمن القومية العربية"، والذي كانت مصر تقوده في فترتيْ الخمسينات والستّينات من القرن الماضي. فاليوم يشهد معظم بلاد العرب "حوادث عنف تقسيمية" و"أحاديث طائفية ومذهبية وإثنية" لتفتيت الأوطان نفسها.. لا الهويّة العربية وحدها!.
اليوم، نجد واقعاً عربياً مغايراً لما كان عليه العرب في أيام ناصر.. فقد سقطت أولويّات المعركة مع إسرائيل وحلّت مكانها "المعاهدات" والمعارك العربية الداخلية. اليوم تُستبدل "الهويّة العربية" بالهويّات الطائفية والمذهبية ولصالح الحروب والانقسامات الوطنية الداخلية. اليوم تتواصل الصراعات العربية البينية بينما ينشط "التطبيع مع إسرائيل"!!.
العرب يتفقون الآن على تفسير الأسباب التي أدّت لضياع فلسطين واغتصاب أرضها في العام 1948. فالرؤية العربية المعاصرة لما حدث تحديداً في نهاية حقبة الأربعينات تتفق على أنّ وجود إسرائيل كان حصيلة عوامل اشترك فيها الدور الصهيوني العالمي، مع المصالح الدولية الكبرى، مع العجز والتقصير العربيين الفاضحين.
لكن رؤية العرب لما حدث بعد عام 1948 تختلف في تحديد المسؤوليات عن الحقبات اللاحقة لنكبة إعلان الوجود الإسرائيلي، وهي المراحل التي تخللتها عدة حروب عربية/إسرائيلية، ومجموعة من اتفاقيات ومعاهدات "سلام" أو قرارات دولية لم تنفذ بعد!
وحسب ما أرى، فإنّ النصف الأخير من القرن الماضي (أي منذ بدء حقبة الخمسينات) يمكن فرزه إلى مرحلتين، كلّ منهما زمنياً هو ربع قرن تقريباً: الربع الأول، هو مرحلة الصراع مع إسرائيل بدون وجود صلح أو تفاوض مباشر أو اعتراف بها من أي طرف عربي، خاصة من الدول المحيطة بها.. والربع الثاني، هو مرحلة الصراع مع إسرائيل في ظل التفاوض وبداية سلسلة المعاهدات والاعترافات والتعامل والتطبيع مع إسرائيل من قبل عدة أطراف عربية معنية مباشرة أو بشكل غير مباشر في هذا الصراع، لكن أيضاً في استمرار المقاومة الشعبية الفلسطينية واللبنانية لقوات الاحتلال الإسرائيلي.
الحقبة الأولى انتهت زمنياً بعد وفاة ناصر وتحديداً عقب حرب عام 1973 حيث بدأت المؤتمرات الدولية والتحركات الأميركية العلنية والسرية لتحقيق تفاوض مباشر ثم صلح واعتراف كامل بين إسرائيل ومصر أولاً. وإذا كانت مرحلة الخمسينات والستينات (مع كلّ ما تخللها من إيجابيات وسلبيات) قد تميزت بقيادة مصر جمال عبد الناصر للمنطقة العربية عموماً، وبصناعة الأحداث فيها، وبالتأثير المباشر على معظم أوضاعها، وعلى المصالح الأجنبية فيها.. فإنّ الربع الأخير من القرن العشرين، الذي كانت بدايته بتوقيع المعاهدة المصرية - الإسرائيلية، تميّز بمحدودية هذا الدور المصري، والنابع أصلا من موقع مصر الجغرافي وثقلها البشري والعسكري ودورها الريادي التاريخي في أحداث المنطقة. فكانت حرب العام 1973 فعلاً آخر الحروب النظامية العربية مع إسرائيل بسبب خروج مصر من الصراع معها.
ولعلّ مقارنة بسيطة بين أوضاع العرب اليوم وبين أوضاعهم قبل أكثر من نصف قرن، لكافية على تأكيد حقيقة أثر انعدام التوازن القائم حالياً بين العرب وبين ما يحيط بهم وما يُهيمن عليهم من مشاريع إقليمية ودولية، بسبب الأنحراف الكبير الذي حصل في مصر عن النهج الفكري والسياسي للتجربة الناصرية ونتيجة قيود "كمب ديفيد" التي مازالت تُعطّل دور مصر في أمتها العربية!.
وسوم: العدد 985