برمجة وإنتاج الجاهلية والكفر
من آيات الله أن خلق الكون وأودع فيه قوانين وسننا كونية تحكمه لا يحيد عنها أبدا. فلو ألقينا حجرا من أي مكان فإنّه يسقط بالضرورة على الأرض وفق قانون الجاذبية. كما أنّنا لو أشعلنا النار فلسوف تحرق كل من يعترض سبيلها. فلا تبديل لسنن الله. فيما أنّ الإنسان مجبول على البرمجة : اللغوية والعصبية والنفسية والفكرية (ما مِن مَوْلُودٍ إلَّا يُولَدُ علَى الفِطْرَةِ، فأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أوْ يُنَصِّرَانِهِ، أوْ يُمَجِّسَانِهِ : حديث شريف) بحيث يمكن برمجة سلوكيات الإنسان وتفكيره وتحويل توجهاته إلى وجهة مغايرة. وهو ما حدث ويحدث فعلا منذ فجر التّاريخ حيث تمّت برمجة عقول النّاس بخرافات وأساطير زيّنت لهم. فأصبحت فيما بعد معتقدات راسخة يصعب تغييرها.
فأوّل من غيّر ملّة إبراهيم ودعا إلى عبادة الأصنام في مكّة هو عمرو ابن لحي الذي جلب صنما من الشام ونصبه في الكعبة وأمر النّاس بعبادته. وقد جاء في الحديث الشريف : " إن أول من سيب السوائب وعبد الأصنام أبو خزاعة عمرو بن عامر ابن لحي وأني رأيته يجر أمعاءه في النار". كما أنّ عبادة البقر في الهند لا ريب في أنّها تشكّلت على إثر حادثة تشبه قصّة عمرو ابن لحي.
وعلى امتداد التّاريخ كلّما ظهر رسول أو نبيّ أو مصلح في مكان ما من العالم تصدّى له أولو الأمر والقائمين على الشأن العام لأنّهم في الغالب يميلون إلى تلبية شهواتهم وغرائزهم دون ضوابط ودون حدود يحدّدها الدّين. لذلك فهم يلجأون إلى عبادة صنم ليجيزوا وليمرّروا به كلّ شهواتهم ونزواتهم وظلمهم وما يريدون فعله . ذلك أنّ الصنم يشرّع لهم كلّ ما يريدون منه. ("لبّيك اللّهمّ لبيك لاشريك لك إلاّ شريك هو لك تملكه وما ملك" هكذا كانوا يردّدون ويمرّرون مشاريعهم الاستبدادية).
من هنا يصطدم الرسل والمصلحون في كلّ زمان ومكان بعبدة الأصنام أو ما يعبّر عنه اليوم بالمنظومة القديمة التي تسعى لفرض مشروعها أو رؤيتها بالقوّة. ففي كلّ عصر ومصر يطلّ علينا من يشبه أبو لهب وأمّ جميل وأبو جهل وعقبة ابن أبي معيط والوليد ابن المغيرة وأميّة ابن خلف ومن لفّ لفّهم، تارة من دار الندوة وطورا في الطرقات وأحيانا أخرى من المؤتمرات والفضائيات يحاربون دين الله.
ما يلفت الانتباه أنّ الذين حاربوا الإسلام والمسلمين في بداية الدعوة أو في أيّام الجاهلية الأولى أسّسوا مشاريعهم الاستبدادية على الشرك ليتسنّى لهم التصدّي لدعوة التوحيد جملة وتفصيلا وإحلال الشرك محلّه. فيما أنّ مجرمي اليوم لا يستطيعون محاربة الإسلام باسم الشرك لأنّ الشرك قد تحطّم منذ 14 قرن ولم يعد موجودا في الواقع وفي أذهان النّاس. فيلجأون إلى النّفاق حيث يتبنّون الإسلام ظاهريا أمام النّاس وينخرطون في نخره من الدّاخل وتفكيك لبناته لبنة لبنة. لأجل ذلك فإنّك تراهم يتصدّرون المشهد الإعلامي السمعي البصري من خلال حضورهم الدّائم والمكثّف في قنوات العار والمجاري ليطلقوا فتاوى في علاقة بالإسلام ومقاصده من قبيل "إنّ الدّين لا يتدخّل في السياسة" والله لم يحرّم الخمر وإنّما قال "اجتنبوه لعلّكم تفلحون" ... هذا فضلا عن دورهم في بثّ المسلسلات ذات مشاهد العري الفاضح والإيحاءات الجنسية على مدار اللّيل والنهار ("والدّوام ينقب الرّخام" المسلسل التونسي "شوفلي حل" نموذجا).
وتصدّر المفكّرون والمحلّلون (والمحلّلات الكاسيات العاريات) يفتون بالشيء ونقيضه في نفس الوقت. ففي إحدى المقابلات التلفزيونية(سنة 2015) اتّهم الدكتور عبد المجيد الشرفي حركة النهضة بالوقوف إلى جانب إمام خطيب وتعطيل خطبة الجمعة لعدّة أسابيع. وفي نفس الحلقة ساند بقوّة جمعية شمس للمثليين بدعوى الانخراط في الحداثة وممارسة الحرية وحقوق الإنسان.
فلا عجب بعد ذلك أن تختلط الأمور على النّاس فيأتون الشيء ونقيضه في نفس الوقت ظنّا منهم أنّ ذلك من الإسلام. فترى النسوة يتسابقن في صيام النوافل والتبرّج والتعرّي الفاضح في نفس الوقت. ولا عجب أن ترى الأم المتحجّبة وبجانبها ابنتها وهي ترتدي سروالا قصيرا لا يزيد طوله عن 20 صم ( !!!) ولا عجب أن ترى الشباب يتابع بشغف مباريات إحدى اللاّعبات في كرة المضرب،بلباس فاضح كما هو معلوم، ويفتخر بما حقّقته من فوز وبطولات. وربّما اجتمعت العائلة حول الشاشة وهي تتابع على المباشر هذه اللاّعبة وتدعو لها بالفوز والنصر كما لو أنّ فلسطين هي التي ستنتصر وستتحرّر من الاحتلال الإسرائيلي.
هذا هو الإسلام الذي يريدون الوصول إليه ونجحوا في برمجة ذلك في عقول النّاس. وهو ما عبّر عنه الكاتب عبد اللّطيف العلوي بالقول : لقد خلقوا منّا مسوخا، لا نحن من الكفّار ولا من المسلمين! وطبعوا عقولنا ونفوسنا بدين انتهازيّ مشوّه يصلح لكلّ شيء ولا يصلح لأيّ شيء! وأنتجوا مجتمعا بغيضا، يدّعي طاعة اللّه ومحبّته، ويحارب كلّ من أمر بمعروف أو نهى عن منكر!
وسوم: العدد 989