الغارديان: كيف باعت مدينة إنكليزية عظيمة تاريخها وروحها لمال النفط والنخبة الإماراتية؟
نشرت صحيفة “الغارديان” مقالا للمعلق والصحافي أديتيا تشاكرابورتي أشار فيه للكيفية التي سيطر فيها المال الإماراتي على أهم مدن بريطانيا بعد العاصمة لندن.
وقال فيه إن لندن تشهد مسرحية صامتة كبيرة هذا الصيف. فما عليك إلا أن تلقي نظرة على السياسيين والصحافيين، المتحمسين للإثارة، والمساومات السياسية حول من سيكون الرئيس التالي لحزب المحافظين بعد رحيل بوريس جونسون.
ولكن إن أردت الحقيقة حول دور النفوذ والمال في المملكة المتحدة اليوم، فانس كلا من ريشي سوناك وليز تراس المرشحين المتنافسين على قيادة حزب المحافظين ورئاسة الوزراء، وتوجه إلى مانشستر “نعم، مانشستر: المدينة المتجددة التي استبدلت مصانع النسيج بناطحات السحاب، وهي الآن تحظى بمديح صحيفة “فايننشيال تايمز” ووزير الخزانة السابق جورج أوزبورن. المدينة التي علمت العالم الكثير عن الرأسمالية الصناعية قبل 200 عام تقدم الآن درسا قاسيا آخر حول الرأسمالية المالية للقرن الحادي والعشرين”.
واقترح الكاتب على من يذهب إلى مانشستر المشي لعدة دقائق شرقا وسط المدينة والتجول في منطقة نيو إزلنغتون ومنطقة أنكوتس. فسيشاهد مبنى بعد آخر من الشقق والمنازل المبنية أو المحولة والمحدثة حديثا، ويصطف العديد منها على مرسى جميل يتلألأ في شمس تموز/يوليو.
و”يمكنك استئجار أو شراء هذه الأماكن في الوقت الحالي، طالما أنك لا تمانع في أن تبدو بعضها مثل صناديق الطلاب المكدسة وأن ثمنها باهظ. هذا ما يبدو عليه التجديد بعد الصناعة، مبنية من الطوب الأحمر. لكن لاحظ شيئا ما: ما يقرب من 1500 من هذه المنازل تأتي من شركة إعمارية واحدة فقط، وهنا تكمن قصة خطيرة”.
وهي شركة “مانشستر لاي” التي أعلن عنها عام 2014، وتم الترحيب بها باعتبارها “صفقة بقيمة مليار جنيه إسترليني” بين مجلس المدينة ومالك نادي مانشستر سيتي لكرة القدم في أبو ظبي.
فقد كان لدى السلطة المحلية مساحات من الأراضي المخصصة للبناء ويعتبر الشيخ منصور، مالك النادي، من بين أغنى الرجال على هذا الكوكب. وبهذا فالتعاون بين سلطات محلية بسلطات واسعة وثري مفرط في التراث، فالنتيجة هي بناء منازل للأشخاص الذين هم في أمس الحاجة إليها إضافة إلى توليد المال. ووعد رئيس المجلس آنذاك، ريتشارد ليس، بـ “نموذج تجديد بمستوى عالمي”.
وفي نفس الوقت، حذرت جماعات حقوق الإنسان مجلس مانشستر من شريكه التجاري الجديد القوي. فالصندوق الاستثماري لمجموعة أبوظبي المتحدة وإن كان منفصلا رسميا عن الدولة، إلا أن مالكه الشيخ منصور هو نائب رئيس وزراء الإمارات العربية المتحدة وشقيق رئيس الإمارات الحالي.
وفي نيسان/ أبريل، نشر الصحافيون في مجلة “دير شبيغل” الألمانية وثائق تشير إلى أن أبوظبي سهلت المدفوعات لمانشستر سيتي.
وعلى أقل تقدير، يرتبط صندوق الاستثمار ارتباطا وثيقا بما وصفته منظمة العفو الدولية بأنه “إحدى أكثر الدول البوليسية وحشية في الشرق الأوسط”. وتعني المعارضة في الإمارات التعفن في السجن، في نظام به عدد أكبر من السجناء السياسيين نسبيا مقارنة بأي مكان آخر في العالم. تقول “هيومان رايتس ووتش” إن المربيات أو عمال البناء المهاجرين ذوي الأجور المنخفضة يعتبرون “عمالة قسرية”. ومع ذلك، فإن مثل هذه الحقائق لم تمنع قيادة المجلس العمالية من المضي قدما.
ويعلق الكاتب “لقد كان تقدما كبيرا للشيخ منصور الذي اشترى، قبل نصف عقد فقط في عام 2008، نادي كرة قدم متعثرا. والآن دخل صندوقه الاستثماري في مشروع مشترك مع الدولة البريطانية (وإن كان ذلك على المستوى المحلي)، ويمكنه من وضع يده على العقارات الرئيسية ويشكل جغرافية المدينة ذاتها. أولئك الذين ينتمون إلى الأوليغارشية في عهد فلاديمير بوتين الذين اشتروا أجزاء من لندن لا يمكنهم أبدا أن يحلموا بمثل هذه الجائزة البراقة”.
ويمضي الكاتب قائلا: “كواحد من حكام مملكة استبدادية لها سمعة مروعة بالقمع وإدمان عائدات النفط، استطاع الشيخ منصور أن يكسب الكثير من هذه الشراكة. كان المجلس هو الذي يمتلك جميع الأوراق تقريبا: هكتارات الأراضي المملوكة ملكية عامة ونظام التخطيط والإعانات العامة”.
ومع ذلك، بطريقة ما، وفقا لبحث جديد تمت مشاركته حصريا مع صحيفة “الغارديان” وكتبه أكاديميون في جامعة شيفيلد، كان الشيخ منصور هو من حصد جميع المكاسب تقريبا.
يقول التقرير إنه تم بيع تسعة مواقع للشيخ بجزء بسيط من قيمتها، وأقل بكثير مما جلبته قطع الأراضي الأخرى المجاورة، مع أن المجلس يقول إنه استخدم خبراء مستقلين باستخدام التقييمات القياسية، على الرغم من أنه لم يقدم أي تفاصيل أخرى.
وتم تأجير هذه الأراضي لمدة 999 عاما، وهو ما يتجاوز بكثير المعتاد. وقام الصندوق بتحويل الأصول العامة إلى شركات مسجلة في جيرسي.
ويقول الكاتب إن هذه الطريق على طول القناة من نيو إزلنغتون إلى أنكوتس تمر على تجمعات من الأراضي المخصخصة المملوكة في ملاذ ضريبي خارجي، والتي تدر الملايين لعضو رئيسي من النخبة الثرية التي تدير دولة مراقبة على الجانب الآخر العالم. “لقد باعت واحدة من أعظم المدن في العالم نفسها لشخصية بارزة في حكم استبدادي وحشي – وبثمن بخس أيضا”.
ويقول “هذا هو الأثر المدمر في أول دراسة شاملة لمخطط مانشستر لايف، وهو نتاج شهور من البحث في حسابات الشركة وطلبات الترخيص. وكان مجلس المدينة أحيانا حريصا على انتقاد منتقديه بدلا من سماع ما سيقولونه: رد ريتشارد ليس، زعيم المجلس لمدة 25 عاما حتى عام 2021، على من يطالبون بإسكان ميسور التكلفة بأنهم “أغبياء من الطبقة المتوسطة وأنا أكرههم”. لذلك دعونا نتخلى عن أي مهاجمات شخصية: “عاش الخبراء جميعا في المدينة منذ عقود، وأنا أحد المستشارين المستقلين وغير مدفوعي الأجر في اللجنة الاستشارية، وهذا تقرير صادر بشكل مباشر من أجل المصلحة العامة”.
وفي حكومة لا تزال تشغل نفسها بكيفية تحقيق نوع من التوازن [بين المناطق الفقيرة والغنية] يتم تقديم مانشستر كرائدة، وقد أشادت إدارات المحافظين بقيادة مانشستر العمالية، بينما وصف أوزبورن رئيسها التنفيذي، السير هوارد بيرنشتاين، بأنه “نجم الحكومات المحلية البريطانية”.
وأدار برنشتاين المجلس لما يقرب من عقدين حتى عام 2017، ثم عين في مجلس إدارة “مانشستر لايف”. ومع ذلك، فقد جاء نجاحها بثمن باهظ على الفقراء من سكان المدينة. لم يتم بيع الأصول التي يمتلكونها بسعر رخيص فحسب، بل وحصلوا على القليل من المال. لا تحتوي المواقع التسعة المطورة على مساكن اجتماعية أو ميسورة التكلفة، وهو ما برره مسؤولو التخطيط بالمجلس ببيانات مثل: “يوجد بالفعل مستوى عالٍ من الإسكان الميسور التكلفة في المنطقة المجاورة”. اعترف نفس المجلس في وقت سابق من هذا العام أن ما يقرب من 4000 من أطفال المدينة ينامون كل ليلة في مساكن مؤقتة.
وفي عمارات “مانشستر لايف” تعتبر الشقة المكونة من غرفتي نوم صفقة إذا كان ثمنها 369000 جنيه إسترليني – وهو السعر الذي يضعها خارج حدود الأزواج الذين يعملون بدوام كامل براتب متوسط. أما بالنسبة للضريبة، فإن المبالغ المدفوعة للخزانة تبدو مضحكة. كسبت إحدى الشركات التابعة الرئيسية أكثر من 26 مليون جنيه إسترليني في السنوات الخمس حتى عام 2021، ولكن وجد الباحثون أنها دفعت ضرائب أقل من 10000 جنيه إسترليني – بمعدل أربعة بنسات فقط على كل مائة جنيه إسترليني من الإيرادات. وينقل الكاتب عن شركة “مانشستر لايف” أن الشركات التابعة لها “تدفع جميع ضرائب الشركات البريطانية أو ضريبة الدخل المستحقة على دخل الإيجار والأرباح”. ومع ذلك، فإنها لن تكشف عن مقدار الضريبة التي تدفعها أو مقدار الإيرادات.
ويعلق الكاتب قائلا “صحيح أن منطقتي نيو إزلنغتون وأنكوتس أصبحتا أجمل بكثير مما كانتا عليه قبل خمس سنوات – لكن السؤال الكبير هو من الذي ربح من إعادة التطوير ومن الذي خسر. يعد وضع أرقام ثابتة على ذلك أمرا صعبا عندما يتم إبقاء الكثير من المعلومات حول شركة مانشستر لايف – وهي مشروع يستخدم الأصول العامة والدعم العام مع سلطة عامة – سرية بشكل صارم”.
طلبت من مؤلفي التقرير حساب المبلغ الذي كان يمكن للمجلس أن يكسبه من هذه الصفقة. بالنظر إلى أمثلة صفقات الأراضي والمجالس المحلية الأخرى، فإن تقديرهم المتحفظ هو 33 مليون جنيه إسترليني، بالإضافة إلى ما يصل إلى 1.7 مليون جنيه إسترليني سنويا كإيجار. ووصف كل من المجلس والمشروع المشترك هذا المبلغ بأنه “تخميني”. كما قال المجلس إنه يتوقع المزيد من الأموال من خلال ترتيب فائض أو نصيب في الربح، على الرغم من أنه لم يقدم أي تفاصيل عن هذه الاتفاقية ولم يتم تسجيلها في السجلات العامة. ولكن على سبيل المقارنة، فإن مبلغ 33 مليون جنيه إسترليني هو أكثر مما تدفعه المدينة في عام واحد لإيواء الأسر في مساكن مؤقتة.
من المفترض أن الشيخ منصور يعرف بالضبط مقدار ما تحققه “مانشستر لايف” – ويمكنه أن يتطلع إلى 10 قرون من إيرادات الإيجار من الأرض في هذه المدينة العظيمة. يبدو أنه راضٍ عن الترتيب. بعد أشهر قليلة من تقاعد برنشتاين من المجلس، تم تعيينه مستشارا استراتيجيا أول لمجموعة سيتي لكرة القدم، المملوكة للشيخ منصور. وعندما سأل الكاتب المجلس عن الإجراءات التي اتبعها في التعيين اللاحق لبرنشتاين مع مثل هذا الشريك التجاري المهم، لم يحصل على جواب.
ربما يكون أجمل تطويرات شركة “مانشستر لايف” هي مطحنة موريز، وهي عبارة عن تحويل لواحدة من أولى مصانع النسيج التي تعمل بالبخار في العالم إلى شقق. تقع في قلب أنكوتس، بجانب شارع بنغال “تنحدر عائلتي في الأصل من البنغال، وهي المنطقة التي نسجت ذات يوم أفضل المنسوجات في العالم، والموسلين الناعم جدا لدرجة أن الفرنسيين كانوا يعشقون تلك الأقمشة التي كانت مدخل شركة الهند الشرقية إلى ثروات جنوب آسيا”.
“إن النظر إلى هذه الأسماء المنقوشة على الطوب يدفعنا لنتذكر كيف حققت مانشستر ثروتها الصناعية وبريطانيا تفوقها العالمي، من القطن الذي قطفه العبيد ومن خلال تدمير المنافسة الصناعية الأجنبية، وحتى تجريم بيع المنسوجات الهندية. لكنها اليوم ترمز إلى شيء آخر: بلد يحتفل بتلقيه رأس مال من دول أخرى بموجب أقسى الشروط باعتباره انتصارا. الفرق هو أن الهنود لم تكن لديهم أوهام حول ما حل بهم”.
وسوم: العدد 990