الالتزام والإلزام (بين الشِّعر والنثر)
لا يمكن- عند (جان بول سارتر)- أن يعتزل الكاتب حياة المجتمع ومشكلاته؛ «ومهما يفعل، فهو في غمار المَعْمَعَةِ، ملحوظٌ وشريكٌ في المغامرة، حتى في أقصى حالات عُزْلته.»(1)
ولا يكفي شعور الكاتب بمسؤوليَّته والتزامه عاطفيًّا، بل لا بُدَّ أن ينتقل ذلك الشعور إلى حيِّز التنفيذ والتعبير، لينتقل بذلك التزامه إلى الآخَرين؛ «فالكاتب هو الوسيط الأعظم، وإنَّما التزامه في وساطته»(2)، ومن دون ذلك لا يُسَمَّى الكاتب ملتزِمًا.
وإذا كان الأصل في الكتابة الحُريَّة، أي إنَّ اتجاه الكاتب إلى هذه المهنة لا يكون إلَّا بمَحْضِ اختياره، فإنَّه لا يلبث أن يفقد هذه الحُريَّة، وتسيطر عليه السُّلطة الاجتماعيَّة بمطالبها، فإذا بالكتابة تُصبِح وظيفةً اجتماعيَّةً، ليس أمام الكاتب إلَّا الالتزام بأدائها، وإلَّا فَقَدَ وظيفته ومكانته التي قلَّده إيَّاها مجتمعه.(3)
غير أنَّها تبدو الحاجة إلى تكرار التأكيد على الفرق بين الالتزام والإلزام، أو بين (الالتزام الوجودي) و(الالتزام الاشتراكي). فلا تعني حتميةُ الالتزام عند (الوجوديِّين)، أو المناداة بالفناء في سبيل ذلك الالتزام، أنَّ حُريَّة الكاتب الأدبيَّة مصادرةٌ، ولكنَّها حُريَّةٌ مقيَّدةٌ بالحدود الإنسانيَّة والوعي الاجتماعي، وحُريَّةٌ لا تتمُّ إلَّا بأمرَين: «أوَّلهما، أنْ لا يَنْزِعَ الكاتب إلى إثارة العواطف الفرديَّة المحضة... وثانيهما، أنْ لا يُسَخَّر الأدب لغاياتٍ خارجةٍ عن نطاقه.» وهذا فارقٌ جوهريٌّ بين الالتزام الوجودي والواقعيَّة الاشتراكيَّة عند اتباع (ماركس).(4)
ومن ناحيةٍ أخرى ينبغي تمييز الالتزام في الأدب عن رسالة الأخلاق والتربية الاجتماعيَّة، فالالتزام خُلُقِيٌّ، ولكن دون تناول المعاني الخُلُقيَّة والاجتماعيَّة تناولًا مباشرًا وَعْظِيًّا، بل يجب البحث عن المَواطِن التي يُعْوِزها التغيير لتُثار من خلال المتعة الفنيَّة والجماليَّة.(5)
وقد استبعد (الوجوديُّون) (الشِّعر) من الالتزام، ورأوا الالتزام في الكتابة النَّثريَّة فقط. وعُني (سارتر)(6) بتبرير ذلك؛ بأن جعل الشِّعر مع (الرَّسم) و(النَّحت) و(الموسيقى) في دائرة عدم الالتزام؛ لأنَّ الشِّعر لا يستخدم اللُّغة بالطريقة نفسها التي يستخدمها بها (النَّثر)؛ من حيث إنَّ:
«الشُّعراء قومٌ يترفَّعون باللُّغة عن أنْ تكون نفعيَّة. وحيث إنَّ البحث عن الحقيقة لا يتمُّ إلَّا بوساطة اللُّغة واستخدامها أداة، فليس لنا، إذن، أنْ نتصوَّر أنَّ هدف الشُّعراء هو في استطلاع الحقائق أو عرضها. وهم لا يفكِّرون كذلك في الدلالة على العالَم وما فيه، وبالتالي لا يرمون إلى تسمية المعاني بالألفاظ؛ لأنَّ التسمية تتطلب تضحيةً تامَّة بالاسم في سبيل المسمَّى. وعلى حدِّ تعبير (هيجل): يبدو الاسم غير جوهريٍّ بالقياس إلى مدلوله الذي هو جوهري. فليس الشُّعراء بمتكلِّمين ولا بصامتين، بل لهم شأنٌ آخَر!»
وكلام (سارتر) هذا يعبِّر عن تلك الفكرة السارتريَّة حول طبيعة (الشِّعر) و(النَّثر) واختلافهما. وقد أفاض المؤلِّف في الاحتجاج لرأيه وتعليله. وهو رأيٌ أصبح جزءًا من الاتجاه الغربيِّ العامِّ في النقد، فالالتزام المنشود وَقْفٌ على النَّثر(7)، سواء أكان مسرحيَّة، أم قِصَّة، أم رواية، أم مقالة.(8)
هذا هو مفهوم «الالتزام» وأبعاده عند (الوجوديِّين). وكما كان هذا المفهوم يتشكَّل برأي الوجوديِّ ونظرته لأمور الحياة، فإنَّ الالتزام نفسه قد أتى نتيجة اضطراب الفلسفات الحديثة، واستجابةً لطموح الإنسان الحديث في الثورة والحُريَّة.
أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَيفي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سارتر، (1990)، ما الأدب؟، ترجمة: محمَّد غنيمي هلال، (القاهرة: نهضة مِصْر)، 73.
(2) انظر: م.ن، 74.
(3) انظر: م.ن، 75.
(4) انظر: هلال، محمَّد غنيمي، (د.ت)، قضايا معاصرة في الأدب والنقد، (القاهرة: دار نهضة مِصْر)، 152.
(5) انظر: م.ن، 146.
(6) سارتر، ما الأدب؟، 13.
(7) وبناء على هذا فما يُسَمَّى بـ«الالتزام في الشِّعر» غير صحيح من وجهة النظر السارتريَّة الوجوديَّة، لكنه صحيحٌ من وجهة النظر الماركسيَّة.
(8) انظر: هلال، قضايا معاصرة في الأدب والنقد، 147.
وسوم: العدد 991