الكتابة رهبة فرغبة ودربة ثم موهبة

في اعتقادي أن من تكريم الله عز وجل للإنسان أنه أودع فيه الكثير من المواهب إلا أن الناس يختلفون في اكتشافها ، ففيهم من يقدح زنادها ـ إن صح  هذا التعبير ـ ومنهم من لا يحرك إصبعا لقدحه ، فيعتقد خطأ وهو واهم أنه غير موهوب  ، والحقيقة خلاف ذلك ، والبرهان على ذلك وجود أهل المواهب .

ومن تلك المواهب الإلهية موهبة الكتابة . وإذا كان معظم الناس يقرءون باعتبار القراءة فكا لرموز الكتابة ، فإن القلة القليلة منهم من يكتبون إذا ما قسناهم بمن يمارسون القراءة ،علما بأن هذه الأخيرة هي الأخرى موهبة من الناس من يرقون بها إلى مستوى رفيع من التذوق ، ومنهم دون ذلك .

ولقد أمر الله تعالى في أول ما نزل من القرآن الكريم رسوله المبعوث للعالمين بأن يقرأ باسمه ، ومن خلاله أمر البشرية جمعاء بالقراءة إلى قيام الساعة . ولا يمكن أن يتحقق فعل القراءة إلا بفعل الكتابة بل هما أمران متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر إلا أن الكثرة الكاثرة من الناس تقرأ بينما القلة القليلة هي التي تكتب .

وكل الأمم تعلّم ناشئتها الكتابة أولا ثم القراءة بعد، والذي لا يخبر فعل الكتابة لا يستطيع القراءة . ولقد بدأ فعل الكتابة عند الإنسان  الأول منذ فجر التاريخ بدائيا ،وكان عبارة عن رسوم خطها أو نقشها على حجارة في كهوف كان يحتمي بها ، وقد ذهب من تعاطوا معها مذاهب في فك رموزها ، والله أعلم بصحة ما يزعمون . وانتقل الإنسان بعد ذلك من طور فعل الكتابة البدائي إلى طور فعل الكتابة الحضاري ، فكان لكل أمة طريقتها في رسم حروف لسانهل والتعبير بذلك عما تعتقده ،وتشعر به مما يسرها أو يسوءها على حد سواء .

والإنسان في بداية عمره وهو صغير يبدأ فعل الكتابة عنده شبه بدائي يخط خطوط لغته الأم  الذي يتحدث بها  بخطوط مضطربة ، وتأخذه  أول الأمر رهبة وهو يفعل ذلك ، ومع تقدمه في السن ينتقل من تلك الرهبة إلى رغبة في الكتابة  فدربة عليها  يجد فيها متعة و قد ينتهي به المسار  إلى اكتشاف ما أودع فيه الله عز وجل من موهبة  فن الكتابة .

وقد يستقر بعد رشده على الكتابة الوظيفية التي يحتاجها في أمر معاشه اليومي تماما كما يفعل مع القراءة . وقد ينتقل من ذلك إلى أنواع من الكتابة علمية  كانت أم أدبية ، فيكون له حظ منها ، وقد تسطع شمس موهبته، فيكون لكتابته شأن كبير وتجعله من المخلّدين إذا ما استطاع أن ينتزع من أهل الخبرة بها اعترافا له بطول باعه فيها وعلو كعبه .

ومعلوم أنه لكل من كتب له خوض تجربة الكتابة  غالبا ما يرويها للناس حين يسأل عن ذلك  . وأنا شخصيا لي تجربتي الخاصة بي ، وقبل الخوض فيها لا بد من أن أكرر قناعتي بأن كل الناس أودع فيهم الله عز وجل مواهب مختلفة بما فيها موهبة الكتابة ، وعندي لا يصح أن الكتابة كما يزعم البعض  قاصرة على أناس بعينهم دون غيرهم بل هي متاحة للجميع ، ولهذا أكرر دائما مقولة أقولها لبعض الفضلاء من معارفي ليس تواضعا ولكن قناعة  : " أنا لست بكاتب، لكنني أكتب ، ولست بشاعر ،لكنني أقرض الشعر ، ولست بخطيب ،لكنني أمارس الخطابة ، وقصدي أنني لا أتفق مع من يريدون  فرض وصايتهم  على الكتابة  من خلال معايير ومقاييس ابتدعوها ما أنزل الله بها من سلطان  بل هي من سلطان أنفسهم ، وما يفندها عندي  أن كثيرا من الناس يكتبون، ويقرضون الشعر، ويخطبون دون أن تعنيهم تلك المعايير والمقاييس ، ولن يضيرهم شيئا إن لم يرتهنوا بها .

بدأت تجربة الكتابة عندي  كما يبدأها كل طفل يلتحق بالمدرسة أول مرة ، مارستها خطا وإملاء ثم إنشاء ، وكانت الممارسة متواضعة في بداية العمر ثم صارت تتطور عبر مراحل الدراسة حتى أثر فيها تخصصي في دراسة اللسان العربي وآدابه ،وبدأت أمارس الإنشاء الأدبي الذي كان جزءا من الاختبارات والامتحانات التي كنت أجتازها كتلميذ وثم كطالب بعد ذلك في التعليم العالي . وبعد ممارستي للتدريس، قررت خوض تجربة الكتابة في بعض القضايا التربوية أول الأمر ثم  بعد انتقلت إلى الكتابة عن قضايا مختلفة، وكانت تجربتي الأولى مع  بعض الصحف الورقية الوطنية ، ولم تكن الكتابة الرقمية  يومئذ متيسرة ، فلما غزت العالم على أوسع نطاق وجدت فيها ضالتي، فصرت أنشر ما أكتبه في مختلف القضايا والمواضيع في مواقع رقمية وطنية وعربية . ونظرا لسرعة النشر في هذه المواقع، كثرت ممارستي للكتابة حتى صرت أحرر أكثر من مقال أو موضوع في اليوم الواحد  .

ومما زادني ممارسة للكتابة اشتغالي بالخطابة لسنوات ، وكنت أحرر أسبوعيا خطبة منبرية حتى صرفت عن الخطابة كما هو في علم من يعرف حكاية صرفي عنها . ولم تخل تجربة الكتابة عندي من طرق باب فن الشعر كما طرقت باب فن النثر ، وأنا على قناعة بأن كل إنسان بإمكانه أن يمر بالتجربة التي مررت بها إلا من أبى .

وهكذا بدأت خوض تجربة الكتابة والتحرير متهيبا ثم راغبا في ذلك  ثم متدربا ثم ممارسا غير آبه  بالحصول على لقب كاتب أو شاعر أو خطيب، لأن المهم عندي هو الممارسة ،وليس الحصول على الألقاب التي لا يمكن أن تجعل من يحملها كذلك إن لم يكن ممارسا ومتمرسا .

ومعلوم أن الكتابة قد تصير إدمانا تدعو إليه الرغبة الملحة فيها مع أن ممارستها لا تخلو من معاناة لا يسلي عنها سوى الشعور باللذة والمتعة ، وذلك هو سبب الإدمان .

وممارسة الكتابة تعتريها أحوال غريبة وغير متوقعة، فقد يعزم المرء على الكتابة في موضوع معين لكنه أحيانا  يجد نفسه ينصرف عنه إلى غيره دون إرادته . وقد ينهي تحرير موضوع، فيعمد إلى مراجعته ، ثم يجد نفسه يغير من ملامحه تغييرا قد يكون أحيانا جذريا  فيحصل له ندم بعد ذلك على  ما فعل . وكم من مواضيع تعن له ،فيعقد العزم على الكتابة فيها ثم تصرف مشاغله اليومية عنها  ، ويطول عهده بها ، فيطويها النسيان ، وقد يتذكرها بعد مدة طويلة ،فيأسف على ذلك لأنه لم يطرق حديدها وهو متوهج كما يقول المثل المغربي . وقد تلح عليه الكتابة في مواضيع تفرضها الظروف ، وتكون على قدر من الأهمية والخطورة في نفس الوقت  لكن تحول بينه وبينها موانع قاهرة  ، فينصرف عنها آسفا على ذلك ، وتبقى عنده مجرد مشاريع كتابة مع وقف التنفيذ . وكثيرا ما تلومه نفسه وتعاتبه على أمور كان عليه أن يتطرق إليها  فيما يكتب لكنه لم يفعل ، ولا ينتبه إلى ذلك إلا وهو يقرؤها منشورة  فتبدو له مبتورة أو كالمبتورة . وقد يندم على نشر موضوع ما ، ويتمنى لو أنه لم يطرقه أصلا ، ولم ينشره .

والأغرب من ذلك  كله أنه وهو يتصفح منابره الرقمية التي ينشر فيها ما يحرره  فيسترعي انتباهه عنوان موضوع يغريه بقراءته ، فيفاجأ بأنه هو صاحبه ، ويحتار في الطريقة التي عالجه بها ، ويحتار في أسلوبه ، ويكاد لا يصدق أنه هو كاتبه لولا أن الموقع قد دون تاريخه .

وقد يأسف لمتابعة جمهور طويل عريض موضوعا لا يراه ذا بال ، أو ذا أهمية ،بينما لا يستهوي القراء  ما يظنه موضوعا عميق الدلالة إلا القلة القليلة منهم ، فيحز ذلك في نفسه ، وهو يتمنى لو لقي من الاهتمام ما هو جدير به  .

وقد تحدثه نفسه أو شيطانه بأنه مجرد عابث فيما يكتب وينشر ، ويكاد ذلك ينال من عزيمته ، ويصرفه عن الكتابة ، لكنه سرعان ما يكون حاله كحال مدمن مخدر لا يرتاح إلا وهو غارق في فعل الكتابة .

وقد يأوي إلى فراشه متعبا  بعد يوم شاق، فينتابه الشعور بالرغبة في الكتابة أو الحنين إليها ، فيترك فراشه الوثير ، ويسهر مع كتابة  موضوع كان يؤرقه إلى ساعة متأخرة من الليل . وربما استيقظ باكرا والناس نيام ليمارس هواته المفضلة.

ومن معاناته أنه يترقب نشر ما يكتب بل يستعجل نشره حتى يبلغ به الأمر حد الاتصال بالناشر يسأله عن سبب تأخر النشر . ومما يقلقه خصوصا وقد أصبحت الكتابة رقنا وقرعا لأزرار الحاسوب  بالبنان ، ولم تعد رسما  بخط اليد ، الوقوع سهوا في أخطاء تعزى للرسم دون أن يتنبه إليها إلا بعد النشر ،  

كل ذلك وغيره مما يعيشه عاشق الكتابة والمدمن عليها  أو يعانيه ويكابده ، لكن لا شيء يعدل لذة الكتابة . ولعل الندم يكون أشد حين لا يكتب المرء من الندم على ما كتب ، لأنه إذا لم يرض على ما كتب يوما ، فإنه مع مرور الأيام  يحمد الله على أنه كتبه ، وتكون كتاباته وهو يستعرضها  بمثابة الصور التذكارية التي التقطها في مراحل مختلفة من عمره قد يذكره بعضها بأسعد لحظات العمر . وقد يثير بعضها فيه شجونا، وأحزانا ومواجع ، ومع ذلك لا تفقد عنده عذوبتها وبريقها ولذتها .

أرجو أن تكون تجربتي المتواضعة هذه مع الكتابة فيها ما يغري عشاق هذه الهواية الممتعة بخوض مغامرتها دون تهيب لأن أولها  يكون هيبة تليها رغبة ثم تنتهي إلى دربة ، وتكون في النهاية موهبة يحمد عليها الواهب جل جلاله .    

وسوم: العدد 992