القراءة ضرورة وواجب فدربة ومتعة ثم هواية فموهبة
تناولت في المقال السابقة موضوع الكتابة ، وضمنته إشارة إلى القراءة مفادها أنهما متلازمان وأنهما لا ينفكان عن بعضهما ، ولهذا اقتضى الحديث عن الكتابة حديثا مثله عن القراءة أبدأه بما يميز الفعل القرائي عن الكلام ،ذلك أن الإنسان حين يتكلم أو يتحدث يقوم بفعل شبيه بالفعل القرائي إلا أن هذا الأخير يتميز عنه بفعل بصري حيث يقع البصر على الكتابة ليفك رموزها ، ثم يجعلها اللسان منطوقة في الوقت الذي يعالج العقل دلالتها ، وقد يستغنى في الفعل القرائي عن النطق ، ويكتفى عوضا عنه بما يسمى فعلا قرائيا صامتا .
ومن المعلوم أن القراءة متأخرة عن الكلام عند الإنسان نظرا لارتباطها بالمكتوب الذي تأخر تاريخيا عن المنطوق . ومع تنامي المكتوب ازدادت وتيرة الفعل القرائي حتى انتهى إلى ما هو عليه اليوم حيث أصبحت بلورات الحواسيب والهواتف الخلوية تسد مسد الأوراق المسطورة بل تنافسها خصوصا وأن إنسان هذا العصر فرضت عليه سرعة في كل نواحي الحياة ، فضاق وقته ،ولم يعد يستطيع معاشرة ومؤانسة الأوراق ، كما أنه ولم يعد يستهويه الفعل القرائي الطويل النفس .
والفعل القرائي يبدأ كضرورة لا مندوحة عنها عند كل البشر من أجل الخروج من تصنيف قدحي هو الانتماء إلى حظيرة الأمية . ويختلف مفهوم ضرورة الفعل القرائي في المعتقدات والثقافات ، ذلك أن الضرورة عند بعضها مرتبطة بمطالب الحياة المادية المحضة، بينما هي عند البعض الآخر مرتبطة بما هو مادي وفي نفس الوقت مرتبطة بما هو روحي كما هو الشأن في اعتقادنا الإسلامي ،لأن أول ما نزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فيه أمر إلهي بممارسة القراءة ، الشيء الذي ألزم البشرية قاطبة إلى يوم القيامة بهذا الفعل .
وينتقل الفعل القرائي من مرحلة الضرورة والواجب إلى مرحلة الدربة، وهي أصعب وأشق مرحلة والتي تبدأ في مرحلة الطفولة الأولى ثم تتطور إلى درجة التمكن في مرحلة الشباب ، وهي مرحلة القراءة الوظيفية التي يقتضيها التعلم .
وبعد مرحلة الدربة تأتي مرحلة المتعة حيث تحل محل القراءة الوظيفية أنواع أخرى من القراءات الحافز التي يحدوها هو الشعور بالمتعة حيث يهوى القراء أنواعا من الكتب المختلفة منها ما هو فني نثرا أو شعرا، ومنها ما هو تاريخي، ومنها ما هو علمي ... إلى غير ذلك من فنون الكتابة . ومع مرور الزمن تصير هذه المتعة هواية ثم تصبح هذه الأخير موهبة عند البعض مع الإدمان على الفعل القرائي ، وهي موهبة تختلف عند مختلف شعوب المعمور، ذلك أن من الشعوب ما تحتل عندهم القراءة مكانة في غاية الأهمية ولا يمكن الاستغناء عنها يوميا كما لا يمكن الاستغناء عن الطعام والشراب والهواء .
ولا زالت أذكر برنامجا أذاعه القسم العربي لهيئة الإذاعة البريطانية قبل سنوات عنوانه :" العرب أمة لا تقرأ " ،وكان عبارة عن عرض النسب المئوية لما يقرأ من صحف ومجلات وكتب عند مختلف أمم الأرض ومقارنتها بنسبة قراءة العرب لها والتي كانت في أدنى درجة تلك النسب ،وقد ساءني يومئذ ذلك الخبر المحزن ، ولا زال ذلك يحز في نفسي إلى يومنا هذا خصوصا ونحن أمة (( اقرأ باسم ربك )) . ولا أظن أن سلفنا كان حاله كحالنا مع القراءة ، والدليل على ذلك ما خلفه هذا السلف من تراث ضخم لا زال أكثره لم يحقق لحد الآن ،وهو من تراث معظمه مسروق ومودع في خزانات ومكتبات الغرب سطا عليه يوم كان احتل أرضنا كما صرح بذلك العلامة المحقق التركي فؤاد سيزكين رحمة الله عليه.
وفي اعتقادي أن العرب في هذا الزمان، وهم الذي كانوا منصرفين عن مؤانسة الكتب ،قد ازدادوا هجرانا لها مع حلول الثورة الرقمية ، وصاروا لا يفكرون في الكتب وقد ازدادوا انشغالا عنها ، وشغلوا بمداعبتهم بلورات الهواتف الخلوية بسباباتهم وهم مدمنون على ذلك إدمانا ينذر بأسوأ العواقب خصوصا بالنسبة للناشئة المتعلمة التي لا تعرف غير الكتب المدرسية في الفصول الدراسية بل قد توضع هذه الكتب أمامها وأصابعها على هواتفها الخلوية وهي في حالات شرود عن أطوار الدروس منشغلة بالعبث العابث مما يسوق رقميا من طرف جهات فاسدة مفسدة تتعمد إفساد العباد والبلاد في كل شبر من هذا العالم ، وهدفها الأول بلاد الإسلام .
وإني لأتوقع أن ينتظر مني بعض القراء الكرام معرفة تجربتي مع القراءة كما سردت عليهم في المقال السابق تجربتي مع الكتابة ، لهذا أقول إنني ككل طفل متمدرس عرفت القراءة أول مرة في الكتّاب ، وكان المقروء هو كتاب الله عز وجل، وأنعم به من مقروء . وكان الفعل القرائي في هذه المرحلة محفوفا بالرهبة بسبب صرامة من كان يلقننا القراءة ، ولم يكن يتراخى في أداء واجبه لأنه كان واجبا دينيا قبل كل شيء . ولما انتقلت إلى المدرسة تحولت القراءة من معاشرة المقدس إلى معاشرة الترفيهي ، وكنت أنهمك في تأمل صور الكتب المدرسية أكثر من انشغالي بالفعل القرائي . ولا زلت أذكر أول يوم في المدرسة ، وقد خط المدرس خطا أفقيا على اللوح الأسود ،ورسم فوقه وتحته الحركات الإعرابية وصار المتعلمون ينطقونها وهم يقلدونه لساعات ،لكن المدرس سرعات ما لاحظ أنهم يعجبون مما يعلمهم، فخطر بباله أن يسألهم عن الحروف الأبجدية ، وأمر أحدنا برسمها على اللوح ،فإذا هو يجيد رسمها رسما قرآنيا ، فسأله من أين اكتسبه ، فأخبر المتعلم بأنه تعلمه في الكتاب ، وبادره المدرس بسؤال عن كم يحفظ من القرآن الكريم ،فأجابه المتعلم بما أذهله ، وما كاد يأمره باستظهار ما تيسر من كتاب الله وهو يمتحن حفظه حتى فاجأه بحفظ متقن جعله يسألنا جميعا عن حظوظنا من حفظ الذكر الحكيم، فكانت مفاجأته أكبر حين وجد الجميع يحفظ منه أحزابا، وكان أقلنا حفظا يحفظ ستة أحزاب من أواخر سور المصحف الشريف، فعمد إلى الخط الذي كان قد رسمه فمسحه ولم يعد إلى رسمه من بعد، ثم وزع علينا كتاب عنوانه:" القراءة المصورة" ، وانتقل بنا للتو إلى قراءة النصوص متجاوزا دروس تهجي الحروف . وكان لما حفظناه من كتاب الله عز وجل دور كبير في اتقاننا الفعل القرائي، وذلك من بركته كما قال العلامة ابن خلدون رحمه الله تعالى.
ولقد كانت مشكلتنا في مرحلة التعليم الابتدائي والإعدادي هي الفقرـ قاتله الله ـ حيث لم يكن بمقدورنا اقتناء الكتب ، وكنا في ستينات القرن الماضي لا نملك كتبا بل توزع علينا كتبا مدرسية داخل الفصول الدراسية ثم تجمع وتودع في خزاناتها ،وكنا نتشوق إلى تصفحها للتسلي بصورها أكثر من الاهتمام بنصوصها . وكانت مشكلة المحاويج منا أكبر . وأذكر أنني كنت في المرحلة الثانوية التأهيلية وأنا لا أملك كتابا واحدا بل كنت أستعير الكتب المدرسية من خزانة المؤسسة . وأذكر أن أحد أساتذتي ـ ذكره الله بخيرـ وقد أصبح زميلا لي فيما بعد ونحن نمارس مهمة الإشراف التربوي والذي كان لا حظ اهتمامي بدرس اللغة العربية ، فأخذ يعيروني بعض كتبه في النقد الأدبي ، وأظن أنه كان يومئذ يشتغل عليها في دراسته العليا ، وكان يلزمني بتحرير تلخيص لها حتى يتأكد من قراءتي لها ، وكنت ألتهمها التهاما ،وأوافيه بخلاصات ما قرأت منها ،وكان يعجب من سرعة قراءتي لها وهو لا يعلم شيئا عن نهم القراءة عندي ، وكنت يومئذ أتمرن على الكتابة أيضا ، وعلى فن التلخيص .
وما عدا فضل هذا الأستاذ الفاضل، كنت لا أجد سوى ما اقتني به جريدة مرة كل أسبوع أو أسبوعين أو أكثر ،ألتهمها من أول سطرفيها إلى آخره بما في ذلك إعلاناتها الإشهارية . وكنت أغتنم فرصة وجود قطع من مجلات باللغة الفرنسية توضع فيها بعض المواد كالتوابل أو غيرها والتي كان الوالد رحمة الله عليه يجلبها معه عند تسوقه ، فأعكف على قراءتها خصوصا في الفترة التي قضيتها في ريف قرية تافوغالت الساحرة ، وكنت أتأسف على غياب تتمة ما كنت أقرأ منها خصوصا ما كان منها مشوقا .
ولم تتوطد معاشرتي للكتب حتى انتقلت إلى المرحلة الجامعية بمدينة فاس حيث وجدت ضالتي في خزانتها ، وكنت أول من يرتادها وآخر من يغادرها، ومعي كتاب تعيرني إياه لبعض الوقت ، وهنا تحولت من مرحلة قراءة المتعة إلى مرحلة هوايتها أو بالأحرى كنت أجمع بين المرحلتين . ولقد كان الإنفاق على اقتناء بعض الكتب يستهلك مني رصيدا مهما من منحتي الدراسية حتى أني كنت أحرم نفسي مما تشتهيه من طعام وشراب لتوفير ما أنفق على خير أنيس كما قال الشاعر المتنبي .
واقتضت بعد ذلك ظروف الدراسة العليا أن أعكف على قراءة كتب ومؤلفات مقررة ثم اقتضت ظروف العمل في التدريس والإشراف التربوي أيضا أن أعاشر كتبا أخرى .
ولما خضت تجربة الخطابة المنبرية ،عكفت على كتب ومؤلفات الشأن الديني ، واقتنيت منها ما يساعدني على تحرير خطبي ، وبهذا تحول الفعل القرائي عندي من الحقل الأدبي والتربوي إلى الحقل الديني .
ولما قررت الخوض في تجربتي الشعرية ،عاشرت أمهات دواوين الشعر العربي كمفضليات المفضل الضبي وأصمعيات الأصمعي واختيارات الأخفش، فضلا عن دواوين أشهر الشعراء ، وكان ديوان المتنبي يحظى عندي بمكان قرب كتاب الله عز وجل حيث كنت ولا زلت أضعهما قرب وسادتي أنام وأستيقظ على تصفحهما لقراءة ما تيسر من كتاب الله ، وقراءة شيئا من شعر أعظم شاعر في اعتقادي . ولم تكن تفوتني قراءة كتب أخرى في شتى الفنون ، كما أن أعدادا من المجلات الفكرية والأدبية لم يكن يفوتني اقتناؤها بانتظام ، ولا زلت على هذه الحال إلى يومنا هذا .
ومع غزو الثورة الرقمية العالم ، استطعت الوصول إلى كل مؤلف تتوق إليه النفس ،فأتصفحه على بلورة الحاسوب أو بلورة الهاتف المحمول وإن كنت شغوفا بصفحات الكتب أفضلها على تلك البلورات .
هذه باختصار شديد تجربتي مع الفعل القرائي ،وإن كان أفضل ما يقرؤه الإنسان المسلم كتاب الله عز وجل وتفاسيره ، وما ارتبط به من علومه المختلفة فضلا عن كتب الحديث الشريف دون إهمال مختلف المؤلفات الفكرية والأدبية والعلمية حسب ما تهواه النفس وتميل إليه .
ومما يؤسف له شديد الأسف أن الشباب اليوم يهدر أغلى لحظات عمره في ترهات يسوقها مفسدون في الأرض في وقت صارت كل مكتبات وخزانات العالم بمختلف اللغات رهن إشارتهم في هواتفهم ولوحاتهم الإلكترونية ، لكنهم يقبلون على العبث العابث ، ويعرضون عن العلم والمعرفة ، وما ينفعهم في عاجلهم وآجلهم ، وما مستقبلا إلا ضحايا جهل من نوع خطير لا تحمد عقباه . ونأمل أن ينتبه هذا الشباب إلى بوائق ما يستهلكه مما يعرض في وسائل التواصل الاجتماعي التي صار التافهون فيها يحتفى بهم ،بينما يهمل أهل العلم والمعرفة.
وسوم: العدد 992