هل يستطيع بشار الأسد التخلي عن السلطة؟
ليست استقالة الدكتاتور الكيماوي السوري من منصبه مطروحة من قبل أي من الجهات المتدخلة في الصراع، بما في ذلك الأطر الرسمية للمعارضة نفسها، ناهيكم عن الدول العظمى والإقليمية الفاعلة، سواء تلك الحليفة للنظام أو الدول الغربية التي أعلنت في بدايات الصراع عن انحيازها لمطالب الشعب السوري، ثم وافقت على بقاء النظام مع مطالبته بإجراء “تغييرات في سلوكه” تعرف أنه لن يقوم بها. وكانت تركيا أحدث تلك الدول التي أرسلت قيادتها، في الأسبوعين الأخيرين، إشارات عديدة عن رغبتها في تطبيع العلاقة معه، وضمناً الموافقة على بقائه.
السؤال الوارد في العنوان هو افتراضي إذن، الغاية منه تمرين الذهن على هذا الاحتمال، لأنه يوفر مجالاً للتفكير في أسباب بقاء النظام على رغم كل الكوارث التي أدى إليها تمسكه بالحكم تحت شعار “الأسد أو نحرق البلد” الذي بدا في بداية طرحه سوريالياً، ثم اتضح بمرور السنوات أنه كان السياسة الحقيقية الوحيدة التي اتبعها وسيبقى متمسكاً بها إلى النهاية.
وسبب طرح هذا السؤال الافتراضي هو أن جميع الجهود الدولية لحل المشكلة سياسياً اصطدمت دائماً بعقدة الأسد، فلا شيء يمكن أن يتغير ببقائه في الحكم، في حين أن استقالته المفترضة يمكن أن تفتح الباب أمام احتمالات عدة لعملية سياسية ما.
أيضاً يجب التوضيح أن استقالة الأسد من منصبه لم تكن يوماً هدفاً بذاته للثورة الشعبية أو المعارضة السياسية، بقدر ما كان الهدف هو تغيير النظام ونمط الحكم ككل، سواء بالنسبة للمعارضة الديمقراطية أو الجماعات الإسلامية، مع برنامج مختلف لدى هؤلاء وأولئك يكاد لا يجمع بينهما شيء غير هدف إسقاط النظام. ويمكن إضافة “البرنامج الكردي” الذي مثله حزب الاتحاد الديمقراطي، وهو يختلف مع البرنامجين المذكورين، ولا مجال هنا للتوسع في الفوارق بين البرامج الثلاثة.
إذن ما الذي منع ويمنع من إقدام رأس النظام على “رمي ورقة الاستقالة” في وجه معارضيه، وفقاً لتعبير معمر القذافي قبيل سقوط نظامه، حقناً للدماء ووقفاً لدمار البلد، في حال قدمت له ضمانات دولية بعدم ملاحقته قضائياً في البلد الذي قد يقبل بلجوئه إليه؟ هل هو مجرد رغبة شخصية في الاستمرار في السلطة مهما كانت كلفة ذلك باهظة على البلد الذي يحكمه، أم أنه يظن نفسه فعلاً المنقذ الذي لا بديل له الذي سيعيد الأمن والاستقرار إلى سوريا ويحقق الازدهار والسلام؟ أم أن هناك قوى داخلية وخارجية ترغمه على التمسك بالسلطة مهما كان الثمن؟
يستحق الافتراض الأخير التمحيص في المشهد السياسي لرؤية تلك القوى التي لا يمكنها أن تسمح باستقالة الأسد أو قبوله بحل سياسي ما ينهي الصراع.
فإذا بدأنا من الداخل سنرى أن المراكز الفاعلة والوازنة داخل السلطة لا يمكنها المخاطرة بحل سياسي يستبعد شخص رأس النظام واستبداله بشخص آخر من داخل النظام نفسه، ذلك أنه يشكل عقدة الوصل التي بدونها ينهار النظام، فليس هناك شخص آخر يمكن أن يحظى بإجماع مراكز النظام كبشار الأسد، ذلك أن باني النظام حافظ الأسد كان قد أسسه على واحدية القيادة صاحبة القرار، مع إضعاف مراكز القوى جميعاً لصالح هذا الاستفراد الكامل بالسلطة.
ثم هناك القاعدة الاجتماعية للنظام، وتتشكل من مروحة واسعة من الفئات الاجتماعية بروائز متنوعة، وإذا لم تكن بكاملها موالية بمعنى القناعة بنمط الحكم، فهي مجمعة على عدائها للثورة التي ترى فيها تقويضاً لأمانها ومصالحها الراسخة المرتبطين ببقائه. وقد غذى النظام طوال عهدي الأسدين الأب والابن مخاوف تلك الفئات من أي تغيير، كمخاوف وجودية لدى البعض ومصلحية لدى بعض آخر. هذه القاعدة الاجتماعية متمسكة ببقاء النظام حتى لو كانت لديها تحفظات كثيرة على ممارسات السلطة القمعية والتسلطية والاحتكارية. فالتهديد الوجودي الذي تشكله الثورة في وعيها يدفع تلك التحفظات إلى مرتبة ثانوية يمكن التخلي عنها مقابل ضرورة بقاء النظام. وإذا كانت تلك المخاوف افتراضية ويتم بثها بصورة متعمدة من قبل النظام إلى ما قبل الثورة، فقد تحولت إلى مخاوف حقيقية بعد اندلاعها، وبخاصة بعد هيمنة التيارات الإسلامية وتسلحها. أبرز مثال على هذا التحول هو ما حدث أكثر من مرة في محافظة السويداء حين تركها النظام مكشوفة أمام هجمات تنظيم الدولة المعروف باسم داعش. ولم يكتف النظام بذلك بل قالها بصراحة حين استقبل وفداً من وجهاء المدينة. فقال لهم بشار الأسد أن تهرب شبان المدينة من التجنيد هو الذي أدى إلى هجوم داعش الذي أدى إلى مقتل عدد من المدنيين. لا يكتفي النظام، إذن، بتأييد لفظي من القاعدة الاجتماعية، بل يريد منها القتال دفاعاً عنه.
تتحدث مصادر المعارضة عموماً عن القتلى في صفوف الثوار السلميين أو المسلحين، ومن المدنيين في البيئات الثائرة. في حين يتجاهل النظام الحديث عن أعداد القتلى في صفوف قواته أو من المدنيين في بيئته الموالية، ويبقى تحديد أعداد هؤلاء القتلى للتقديرات. لكن القناعة العامة هي أن عشرات الآلاف قتلوا دفاعاً عن النظام أو في هجمات المعارضة المسلحة خلال سنوات الصراع. تمسك البيئة الموالية ببقاء النظام لم يتراجع رغم كل هذه الخسائر. وفي السنوات الأخيرة أضيفت سوء الشروط الحياتية وقسوتها في المناطق الخاضعة للنظام إلى تلك الفاتورة الباهظة، ولم يتراجع التمسك ببقاء النظام.
أما القوى الخارجية المتمسكة ببقاء النظام، وضمناً ببقاء بشار الأسد على رأس السلطة، فهي إيران وتوابعها، وأبرزهم حزب الله في لبنان، بصورة أساسية، وبعدها روسيا بوتين التي باتت لها مصالح استراتيجية في سوريا لا تثق بغير بشار الأسد لضمانها. أم الدول الغربية فرائزها في هذا الموضوع هو عدم ترك سوريا ساحة لـ”الإرهاب” المقتصر على المجموعات الجهادية السنية، وهو ما يجعلها متمسكة ببقاء النظام وإن كانت لا تمانع في تغيير شخص رأسه إذا أمكن ذلك، وهي تدرك ضمناً أنه غير ممكن.
وسوم: العدد 995