السلطة في مأزق؟ والاحتلال كذلك
أعلنت قوات الاحتلال الإسرائيلي أنّ الشابين اللذين اشتبكا مع قواتها بالقرب من حاجز الجلمة فجر أمس الأربعاء شمال جنين، هما عبد الرحمن هاني عابد، وقريبه الشاب أحمد عابد، الذي ينتمي إلى جهاز المخابرات الفلسطيني! وهو اشتباك أدى إلى مصرع ضابط من قوات الاحتلال واستشهاد الشّابين.
وكانت وسائل إعلام إسرائيلية قد أعلنت قبل هذا ببضع ساعات عن طفل فلسطيني في الثانية عشرة من عمره، تقدّم وهو يحمل سكينا على حاجز زعترة، فأطلق الجنودُ النار في الهواء تحذيرا له «بحسب القاعدة المتَّبعة» كما يقولون، فتخلى عن سكينه، ثم اعتقلوه وسلّموه إلى السلطة الفلسطينية!
إن فكرة وجود طفل في الثانية عشرة يحمل سكينا لمهاجمة حاجز عسكري، تحمل في طياتها غضباً وحسرة ودلالة، كان يمكن أن يقتل هذا الطفل، أو أن يصاب ويعيش مشوّهاً، الاحتلال يقتل البراءة ويشوِّه كل شيء، وهو المسؤول الأول والأخير الذي أوصل طفلاً إلى هذا القدر من الكراهية التي كادت تودي بحياته. أما عندما يقوم فرد من قوات الأمن الفلسطينية برفقة قريب أو صديق له بمهاجمة قوات الاحتلال، فهما يدركان أنهما ذاهبان إلى لا عودة، وهذا يلخّص الصورة والأجواء العامة في الضفة الغربية، في قراها ومدنها ومخيّماتها، هذا يعني أن رهان الاحتلال على تحويل أنظمة الأمن الفلسطينية إلى شبه مرتزقة له، فهو وهم كبير. بممارساته على أرض الواقع دفع الاحتلال السلطة الفلسطينية من مأزق إلى مأزق وعمل على إضعافها وأظهرها أمام شعبها والعالم بمظهر العاجز، ووضعها أمام خيارين لا ثالث لهما، إما مواصلة التنسيق الأمني الكامل من دون أي التزامات إسرائيلية في اتجاه أي حل سياسي، أو تجميد المهام الأمنية التي تخدم الاحتلال، بمعنى غضّ الطرف عن المقاومين وانتظار ما سيحدث، ومحاولة كسب تعاطف العالم! وهذا ما يرفضه الاحتلال، بل ويهاجم رئيس السلطة محمود عباس ويحمّله المسؤولية، كما جاء على لسان رئيس الشاباك ورئيس الأركان، ويحرّض ضده الدول الداعمة لإسرائيل وعلى رأسها الولايات المتحدة التي تسرع للاستجابة، فتنتقد رئيس السلطة حتى على نشاطه السياسي الدولي، فتزيد من مأزق السلطة وتحشرها في الزاوية. إلا أن هذه المعادلة المُختلة نفسها تضع الاحتلال في مأزق كذلك، فهو أيضاً أمام خيارين، فإما التصعيد القمعي والتدخل المباشر في مواجهة مظاهر المقاومة، من خلال الاعتقالات والقتل والهدم والتعرض إلى خسائر بين جنوده، والاضطرار إلى حشد المزيد من قواته، الأمر الذي يعني تعميق تهميش وإضعاف دور السلطة لدرجة قد تؤدي إلى انهيارها، وهذا يعني العودة إلى مربَّع ما قبل السُّلطة، احتلال مقابل شعب تحت احتلال، وإما الاعتراف لهذه السلطة بدورها في بسط الأمن، ومكافأتها بمنحها إنجازات حقيقية تقدمّها إلى شعبها، تتمثّل في وقف مصادرات الأرض ووقف توسيع أو إقامة المستوطنات الجديدة، وزيادة الإمكانيات والفرص الاقتصادية، وفتح ثغرة من الأمل والحلم والأمل في واقع أفضل! إلا أن الخريطة السياسية في إسرائيل غير مؤهلة إلى مثل هذا، فهي تتّجه من اليمين إلى اليمين المتطرِّف، والمزايدات بين مختلف أحزاب السلطة هي على من يبتزُّ السلطة الفلسطينية أكثر، وليس على من يتقدَّم معها كشريك في صناعة حلم للشعبين في السلام، بل إن هناك من يريد لها أن تنتهي وطيّ صفحة أوسلو. تنحصر مطالب الاحتلال من السلطة بلعب دور المرتزقة بصورة التفافية، وهذا ما لن يحدث أبدا.
وضع الأجهزة الأمنية الفلسطينية في مواجهة مع شعبها، سيرتدُّ حتماً بالاتجاه المعاكس، كما حدث ويحدث، بأن يصطف أبناء هذه الأجهزة إلى جانب شعبهم وليس إلى جانب الاحتلال، فإضافة إلى أن الأرض التي تصادر تقضُم من حلم الجميع في وطن مستقل، والبيت الذي يُهدم هو كذلك، والاحتلال يذلُّ الجميع بعنجهيته وبهيميته، فهناك تراث عميق راسخ لا يستوعبه الاحتلال، وهذا في بنية المجتمع الفلسطيني، في تراثه القومي والديني والعشائري، تراث ينبذ العميل ويجلّله بالعار، بينما يفاخر بالشَّهيد، ويرفعه إلى درجة القديسين. هنالك ثقافة مجتمعية راسخة لا تتزعزع، هنالك الإيمان العميق الذي يعني أموراً كثيرة لا يدركها الاحتلال، ولا يستطيع أن يغيّرها برواتب وتطييبات ولا بقمع، وحَدثٌ بسيط واحد قد يقلب الأمور كلها خلال لحظات رأساً على عقب، ويعيدها إلى نصابها الصحيح.
وسوم: العدد 997