حب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمقال إنما يصدقه أو يكذبه الحال
بداية لا بد من كلمة موجهة إلى الذين يعتبرون الاحتفال بحلول مناسبة مولد سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم بدعة ، ويدعون إلى مقاطعتها بل محاربتها مخالفين بذلك إجماع علماء الأمة من الراسخة أقدامهم في العلم على جواز الاحتفال بهذه المناسبة علما بأن من يبدّعون من يحتفل بها ليسوا في عير ولا في بعير كما يقول المثل العربي ، ولا يتعلقون بغبار أهل العلم ممن جوّزوا ذلك .
وأول ما يقال لهؤلاء المبدّعين الذين يخلطون بين عيدي الفطر والأضحى وعيد المولد أن لفظة " عيد " في اللسان العربي تطلق على ما يعود ويتكرر كما جاء في قول الشاعر : " عيد بأية حال عدت يا عيد" ، ولما كانت المناسبات مما يتكرر ويعود سنويا سميت عيدا ، وبهذا يكون القاسم المشترك بين عيدي الفطر والأضحى ، وعيد المولد هو العود والتكرار دون أن يعني ذلك أن إطلاق لفظة " عيد " على مناسبة المولد زيادة على ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بوحي من الله عز وجل بخصوص الاحتفال بعيدي الفطر والأضحى حيث أن الأول يكون نهاية شهرعبادة الصيام ، بينما الثاني يكون بنهاية عبادة الحج .
ولما كان مولد سول الله صلى الله عليه وسلم حدثا هاما في حياة البشرية باعتباره خاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين والمبعوث للعالمين إلى يوم الدين ، وكانت مناسبته تتكرر كل عام ،فإنه اعتبر بذلك عيدا دون أن يقول أحد أنه كعيد الفطر وعيد الأضحى من حيث الدلالة التعبدية بل كل ما يقال أنه مناسبة تستدعي استحضار، واستعراض شمائل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لتجديد العهد معه على التزام منهجه في عبادة الله عز وجل ، والتحلي بخلقه العظيم ، وليس في هذا ما يبدّع المبّدعون من يكون هذا قصده وهذه نيته من الاحتفال بهذه المناسبة .
ولقد أدرك أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّح إلى أهمية يوم مولده حين سئل عن صومه يوم الإثنين فقال : " ذلك يوم ولدت فيه " ،وعلى من يبدّعون من يحتفلون بمولده الشريف أن يسألوا أنفسهم لماذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مولده وهو يسأل عن صوم يوم الإثنين ؟ أليس في قوله هذا ما يشير بشكل واضح لا غبار عليه إلى أن ليوم مولد شأنا ؟ وهل يستطيع أحد أن ينفي أو يشك أو يشكّك في حقيقة شأن هذا اليوم وقدره العظيم باعتبارعظمة شأن من ولد فيه عليه الصلاة والسلام ؟ وما المانع من أن يعرف أويعلم الناس ذلك اليوم من السنة ، وأن يجتمعوا فيه للاحتفال به بما تدل عليه هذه الكلمة من معنى الاهتمام ؟
وما الذي ينكره المبدّعون على المحتفلين بهذه المناسبة إذا اجتمعوا في بيوت الله عز وجل أو في غيرها لاستعراض شمائل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي التي لا تنقضي عجائبها كما هو شأن القرآن الكريم المنزّل عليه والذي فيه قول الله تعالى : (( وإنك لعلى خلق عظيم )) ،علما بأن أم المؤمنين رضي الله عنها حين سئلت عن خلقه عليه الصلاة والسلام قالت : " كان خلقه القرآن "؟ وما نوع البدعة إذا اجتمع الناس في يوم مولده عليه الصلاة والسلام لاستعراض هذا الخلق العظيم ، وهم المفروض فيهم استعراضه باستمرار طيلة أيام السنة ؟ أو ليست بدعة حسنة يؤجر من سنّها ، ومن عمل بها إلى يوم القيامة كما جاء في حديثه عليه الصلاة والسلام ؟
وقد يقول المبدّعون إن الاحتفال بهذه المناسبة تشوبه الشوائب مما يعتبر بدعا سيئة على من سنها ومن عمل بها وزر إلى يوم القيامة ، وهذا أمر لا يختلف معهم فيه أحد إذا ما وجد شيء من تلك الشوائب في الاحتفال مما يتنكر له عموم المسلمين ويتبرءون منه . وهل وجود مثل تلك الشوائب عند قوم يدعوا إلى تبديع كل من يحتفل بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم احتفالا لا شيء فيه مما يريب من تلك الشوائب ؟
ومما ينكره المبدّعون أيضا المدائح التي يمدح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مناسبة مولده ، ويذهبون بعيدا في تأويل بعضها وهم أبعد ما يكونون عن معرفة صناعة الشعر ، و تذوقه ، و معرفة تقاليده التي سنها فحول الشعراء ، و أبعد عن التمييز بين أساليبه التي يجب بالضرورة اختلافها أو انزياحها عن أساليب الكلام العادي ليكون بذلك الشعر شعرا. ومن غرور هؤلاء المبدّعين أنهم ينصّبون أنفسهم نقادا ينتقدون مشاهير الشعراء ممن مدحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويخيّل إليهم أنهم أعلم منهم بالشعر، بل أرفع أذواقا منهم ، وعليهم ينطبق قول الشاعرالمتنبي الساخر من أصحاب الأذواق الرديئة في تذوق الشعر :
ومن يك ذا فم مر مريض يجد مرا به الماء الزلالا
ومن المثير للسخرية في أقوال المبدّعين أن يقول الإمام البوصيري رحمه الله في بردته :
دع ما ادعته النصارى في نبيّهم واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم
ومع ذلك ينتقدونه في بعض أبياته كقوله :
أنت الذي لولاك ما خلق امرؤ كلا ولا خلق الورى لولاك
ولهؤلاء نقول: قولوا لنا بربكم ما قيمة الدنيا لو لم يخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي جعله الله تعالى إسوة وقدوة للعالمين ؟ وما قيمة حياة امرىء لا يقتدي ولا يتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أليس هذا ما قصده الشاعر؟
ومن المثير للسخرية عند المبدّعين إنكارهم قول شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت رضي الله عنه ، وهو الذي كان يأمره عليه الصلاة والسلام بهجاء الكفار والمشركين قائلا :" اهجهم وروح القدس معك "ينتقدونه في قوله :
وأحسن منك لم تر قط عيني وأجمل منك لم تلد النساء
خلقت مبرءا من كل عيــــب كأنك قد خلقت كما تشــاء
ونحن نسأل هؤلاء هل يوجد أحسن أو أجمل من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وهل ولد مثله في العالمين ؟ ، والشطر الثاني من البيت الثاني موضوع انتقاد المبدّعين بني فعل الخلق فيه للمفعول أو المجهول، وهو ما يعني أن الخالق هو الله سبحانه وتعالى ، ولو أنهم علموا دلالة الفعل المبني للمفعول لما زلت به أقدامهم في فهم ما قصد إليه الشاعر . وأما فعل المشيئة التي جعلها الشاعر للرسول صلى الله عليه وسلم إنما قصد بذلك معنى كما تتمنى على خالقك ،وكما ترجو من براءة من كل عيب ، وكما تتوق إليه من كمال ، ولو كان المبدّعون يعرفون شيئا من علم العروض لعلموا أن القافية اقتضت استعمال الشاعر فعل المشيئة عوضا عن فعل الرجاء أو التمني ، ولكنهم قوم لا يفقهون .
وقد ينتقد المبدّعون افتتاح مدائح النبي صلى الله عليه وسلم بالنسيب أو الغزل مع أن ذلك مما دأب عليه الشعراء منذ القديم إذا مدحوا ، وصار عندهم عادة ، علما بأن النبي صلى الله عليه استقبل كعب بن زهير الذي جاءه معتذرا ومدحه بقصيدته المشهورة وقد جعل أولها نسيبا وغزلا ، والنبي عليه الصلاة والسلام ينصت إليه، ولم ينكرعليه نسيبه وغزله بل عفا عما كان منه قبل إسلامه ، وخلع عليه بردته إكراما له على مديحه على عادة العرب ، كما أنه كان يستنشد الشعر الجاهلي الذي في مقدمته نسيب وغزل، ولا ينكر منه شيئا بل يشيد بما فيه من حكم كما أخبر بذلك خادمه أنس رضي الله عنه حين ردفه ذات يوم ، وفقال له : " أنشدني لأشعر شعرائكم " ،وهو يقصد طرفة بن العبد ، فأخذ أنس ينشد والنبي ينصت حتى إذا بلغ قوله طرفة :
تبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ويأتيك بالأخبار من لم تزود
فاستحسن النبي صلى الله عليه وسلم قوله لأنه يدل على حقيقة قرآنية .
وأخيرا نختم بالقول إن الاحتفال بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بدعة كما يزعم من يبدّعون المحتفلين به بل هو مؤشر على محبته ، وحبه بالمقال إنما يصدّقه أو يكذّبه الحال .
وسوم: العدد 1001