انعقاد القمة الفرنكوفونية بتونس يفضح تورطها المكشوف في الإجهاز على المسار الديمقراطي
بداية لا بد من التذكير بأن الفرنكوفونية هي من المخلفات المقيتة لحقبة الاحتلال الفرنسي لعدد من الدول في القارة الافريقية و في غيرها من الدول في قارات أخرى.
ومن طبيعة الاحتلال أنه لا ينتهي بمجرد جلاء عساكره عن الأراضي التي يحتلها لأن عساكره إنما تمهد له من أجل أن تظل مستعمراته تابعة له أو بتعبير أصح خاضعة لإرادته بعد رحيله عنها بحيث يتخذ منها قواعد دائمة له ،ومصادر ثروات ويد عاملة، وميادين تجارب ، ومناطق نفوذ وتوسع إيديولوجي وثقافي ولغوي ...
ولقد دأب محتل الأمس الفرنسي على تنظيم ما يسمى بالقمم الفرنكوفونية التي بلغت عددها الثامن عشر ، وهي قمم يستغلها من أجل أن يملي على مستعمراته السابقة ما يهدف إليه من صريح الأهداف، ومن خفيّها تحت شعارات مضللة ومموهة تحاول إضفاء مصداقية وهمية على تلك القمم .
والمثير للانتباه في قمته الثامنة عشرة التي قرر عقدها في تونس ما ينطوي على ذلك من تورط فرنسا المكشوف في إجهاض التجربة الديمقراطية التونسية الفتية التي انقلب عليها الرئيس المنتخب ديمقراطيا انقلابا فظيعا تبخرت بسببه أحلام الشعب التونسي الذي تعتبر تجربته الديمقراطية بادرة طيبة كان من شأنها أن تعم جميع أقطار الوطن العربي ليخرج من وضعه المزري إلى وضع جديد يكون انطلاقة نهضة حقيقية في مستوى طموحات شعوبه التي لا زالت تعيش تداعيات فترات الاحتلال الغربي السلبية التي تعوق مسار تطورها .
ومعلوم أن الموقف الفرنسي من الانقلاب السافر على الديمقراطية في تونس ينم عن نفاق حيث تتظاهر فرنسا بأنها ضد هذا الانقلاب ،و أنها تدينه ، وتدعو للعودة السريعة إلى المسار الديمقراطي ، وهي في حقيقة الأمر مدبرته وصانعته ،لأن نجاح التجربة الديمقراطية في تونس يعتبر تهديدا لمصالحها المكشوفة في القارة السمراء التي تعتبر بالنسبة إليها بقرة حلوبا لا زالت تدرعليها من ثروات ومقدرات مستعمراتها السابقة في هذه القارة المعطاء ، وهو ما صنع رفاهيتها على حساب بؤس شعوب تلك المستعمرات .
وتتوخي فرنسا من عقد قمتها الفرنكوفونية إضفاء الشرعية على الرئيس المنقلب على المسار الديمقراطي خصوصا وأن الشعب التونسي رفض بقاءه في السلطة بعد خيانته للقسم الذي أقسمه وهو يضع يده على المصحف الشريف ، وخيانته للثقة التي وضعت فيه، وللأمانة التي تقلّدها ولم يرعها حق رعايتها .
ومعلوم أن تونس فيها انطلقت الشرارة الأولى لثورات الربيع العربي التي أقضت مضجع العالم الغربي لأنها أفرزت رهان شعوب العالم العربي على خيار الإسلام من أجل الخلاص من وضع ما بعد جلاء الاحتلال العسكري الغربي عن أوطانها في القرن الماضي . ولقد تجلى هذا الرهان بوضوح في بلوغ أحزاب ذات مرجعية إسلامية إلى مراكز صنع القرار بعد خوض انتخابات ديمقراطية نزيهة خلافا لما كان عليه الوضع في الانتخابات المطبوخة سلفا .
ولقد كانت تونس أول البلاد العربية فاز فيها حزب النهضة ذو المرجعية الإسلامية الذي واجه من طرف الفلول العلمانية المدعومة غربيا وتحديدا فرنسيا مشاكل عديدة، وانتهى به الأمر إلى انقلاب الرئيس عليه وهو يخوّنه ، ويكيل له من التهم الملفقة ما يبرر به إجهازه على المسار الديمقراطي ، وهو إجهاز سبقه إجهاز مثله في مصر حيث عاد الجيش إلى لسيطرة على مقاليد الأمور كما كان الحال منذ جلاء الجيش الإنجليزي المحتل عنها .
ولقد بارك الغرب الانقلاب العسكري على المسار الديمقراطي في مصر ، وسكت عليه سكوت الشيطان الأخرس ، وهو ما يدل بما لا يدع مجالا للشك أنه هو من خطط له ودبره بليل ، وأوكل إلى جهات إقليمية النيابة عنه في دعمه ماديا وإعلاميا من أجل إجهاض المسار الديمقراطي في مصر التي تعد قاطرة البلاد العربية باعتبار وضعها ومكانتها في الوطن العربي، وهو ما يحذر منه الغرب حتى لا تسير باقي العربات خلف القاطرة ، وتنتهى بذلك الهيمنة الغربية واستغلالها لثروات ومقدرات الشعوب العربية التي لا تزداد أحوال شعوبها إلا سوء .
ولقد كان الانقلاب العسكري على المسار الديمقراطي في مصر إيذانا بانقلابات أخرى مماثلة قد تختلف في أشكالها ، ولكنها تتفق في هدفها، وهو قطع الطريق على كل حزب ذي مرجعية إسلامية قد تفرز فوزه صناديق الاقتراع . ولقد صار الغرب يعتبر فوز الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية في الوطن العربي مؤشرا على ما بات يسميه " إسلاما سياسيا " ، ويعتبره مصدر تهديد له ، وأصبحت بعض تلك الأحزاب تحسب على جماعات إرهابية متطرفة ترتكب جرائم باسم الإسلام لتشويهه ، وهي جزء من مغامرة غربية مكشوفة ، وتتهم بأنها المنظرة والممولة لتلك الجماعات كما هو الشأن بالنسبة لحزب العدالة والحرية المصري الذي زج العسكر المنقلب على الديمقراطية والشرعية بقياداته وأتباعه في السجون بعد تصفية الرئيس الشرعي بطريقة مأسوية .
ولقد تحيّن الرئيس التونسي الفرصة لينقلب بدوره على المسار الديمقراطي ، سائرا على نهج الرئيس المصري ، ولفق بدوره تهما لقيادات حزب النهضة ليجعل مصيرهم كمصير قيادات حزب الحرية والعدالة في مصر .
ومن الخداع المكشوف ،والضحك على الذقون أن ترفع القمة الفرنكوفونية الثامنة عشرة شعار: " تعزيز السلام والازدهار الاقتصادي ، وترسيخ الديمقراطية " وهي تعقد في بلد ذبحت فيه الديمقراطية ذبحا على يد رئيس ركب ظهر الديمقراطية ليعود بتونس إلى العهد الشمولي الحالك بعد ثورة شعبية أطاحت بآخر رموزه المستبدة بالسلطة .
ولا بد من الإشارة إلى أن الشعار الذي ترفعه الفرنكوفونية إنما هو ذر للرماد في العيون من أجل التمويه على أهدافها الخبيثة والماكرة التي تستهدف بالدرجة الأولى الإسلام في مستعمرات فرنسا التي تدين به خصوصا وأنه قد قاوم احتلالها ، واضطرها إلى إجلاء جيوشها وهو ما جعلها تواصل التوجس منه مخافة أن يقضي على استمرار استغلالها لها اقتصاديا و سياسيا وثقافيا لتلك المستعمرات .
وإن الفرنكوفونيا لتخشى اليوم من إنهيار لغتها، وثقافتها ،وفكرها في مستعمراتها السابقة أمام المد الكاسح للأنجلوفونية التي أثبتت هيمنتها اللغوية والعلمية في كل أقطار المعمور مقابل تقهقر المد اللغوي الفرنسي في وقت تخلفت فيه اللغة الفرنسية كثيرا عن ندتها الإنجليزية التي قطعت أشواطا بعيدة في التطورعلميا وفكريا. ولقد أصبحت فرنسا تحرص على بقاء لغتها من خلال ضمان وجودها واستمرارها في مستعمراتها السابقة مخافة أن تراهن هذه الأخيرة على الانجليزية لغة العلم والتكنولوجيا ، فيكون ذلك سببا في نهضة تلك المستعمرات السابقة خصوصا وأن بوادر تلك النهضة قد بدأت تظهر في بعضها باعتمادها تعليما باللغة الأولى عالميا من أجل اختصار الطريق إلى المعارف والعلوم في أوقات قياسية عوض البقاء رهن طريق الفرنسية المتخلف عن ركب التطور العلمي والتكنولوجي في عالم اليوم . ومما زاد من تخوف فرنسا تنامي الدعوات الداعية إلى اعتماد الانجليزية لغة تعليم بديلا عن لغتها في مستعمراتها السابقة.
وتجند فرنسا اليوم وكما كانت دائما طوابيرها الخامسة الموجودة في مستعمراتها السابقة من أجل ضمان استمرار وجود لغتها وثقافتها فيها ، وهو ما يضمن استمرار استغلالها ثروات تلك المستعمرات ومقدراتها . وإن طوابيرها ليظهرون عداء مكشوفا للغة العربية ، ويطالبون بإحلال عاميتها محلها بدعوى صعوبتها وبالزعم أنها لا تصلح كلغة ناقلة للمعارف والعلوم الحديثة . وتساند بعض الأنظمة هذه الطوابيرالخامسة التي تعمل لصالح الفرنكوفونية وتدعمها بقوة ، و نذكر منها على سبيل المثال النظامين الجزائري والتونسي ، وهما نموذجان يكرسان الاستبداد والطغيان ، ويعرقلان تحررالشعبين الجزائري والتونسي منهما ومن تحقيق نهضتهما المنشودة .
وأخيرا نقول إن أول خطوة يمكن أن تخطوها شعوب مستعمرات فرنسا السابقة في القارة السمراء وخصوصا في بلدان شمالها هي إفشال القمم الفرنكوفونية من خلال فضح أهدافها الخبيثة والماكرة ، والاتجاه نجو التخلص من اعتماد الفرنسية كلغة تعليم في مؤسساتها التربوية ، وذلك بالرهان على لغاتها الأمهات أولا ، ثم على اللغات ذات السبق في المجال العلمي والتكنولوجي عوض البقاء رهن الفرنسية التي تستنزف جهود ووقت ناشئتها المتعلمة لتخدم فرنسا في نهاية المطاف .
وإلى أن يحين وقت اتخاذ القرار الشجاع للقطيعة مع الفرنكوفونية لغة وفكرا وثقافة ، نرجو أن تتسع دائرة الوعي بما تحوكه فرنسا من مؤامرات خبيثة وماكرة لتطيل من مدة وجودها الفكري والإيديولوجي واللغوي في بلدان احتلتها ، وخلف احتلالها شعوبها ضحايا التجهيل والتخلف والاستبداد والطغيان .
وأخيرا نقول إن الفرنكوفونية الفاقدة للمصداقية في مستعمرات فرنسا السابقة لا يمكن أن تضفي الشرعية على الرئيس التونسي الفاقد للشرعية بانقلابه وإجهازه على المسار الديمقراطي ، كما أنها لا يمكن أن تضفي الشرعية على الرئيس المصري الذي سيحضر قمتها الثامنة عشرة أيضا ، لأن ما بني على باطل فهو باطل.
وسوم: العدد 1007