صناديدُ الشعب الفلسطيني ورعاديدُ الجيش الإسرائيلي
أظهرت جريمة قتل الشهيد عمار مفلح حجم الخسة والنذالة التي يختال بها جنود الكيان الصهيوني ومستوطنوه، وكشفت عن كبير جبنهم وعميق خوفهم الذي لا يستطيعون إخفاءه، ولا يتمكنون من إنكاره، فهم يخافون من كل شبحٍ، ويخشون من كل فلسطيني، ويصعقون من كل صوتٍ، ويهابون من المواجهة، ويهربون عند المجابهة، ويرهبون النزال على الأرض والقتال في الميدان، ويفزعون مما يحمله الفلسطينيون بأيديهم، ويقلقون مما يحلمون به في مناماتهم، ويساورهم الشك من خيالاتهم، ويظنون أن الموت يلاحقهم والقتل يتربص بهم، ويحسبون كل صيحةٍ عليهم، وجوههم صفراء كالحة، وأصواتهم صاخبةٌ خائفة، وعيونهم تدور في محاجرها حائرة، فلا نامت أعين الجبناء.
رأى العالم كله صور الشهيد عمار مفلح وهو يتعارك بيديه المجردتين كفارسٍ نبيلٍ مع الجندي الإسرائيلي اللئيم، الخائف المضطرب رغم أنه مدجج بالسلاح، إذ كان يحمل بندقية ومسدساً وجعبةً مليئةً بخزنات الطلقات والقنابل اليدوية والغازية والمسيلة للدموع، وسكيناً تشبه المدية في طولها ونصلها الحاد ورأسها المدبب، وبالقرب منه جنودٌ آخرون يحرسونه ويحمونه، ويبدون استعدادهم للتدخل إلى جانبه والاشتباك مع الشبان الفلسطينيين، ورغم ذلك فقد اشتبك الشهيد عمار مع الجندي الإسرائيلي بكل قوةٍ وجسارةٍ، وجرأةٍ وشجاعةٍ، وصارعه بيديه غير مبالٍ بما يحمل من أسلحةٍ، وغير خائفٍ من الجنود الآخرين الذين ينظرون إليه ويتربصون به.
إلا أن الجندي الصهيوني الذي هالته شجاعة عمار وقوته وجسارته، وأرعبه إقدامه وإصراره، قد شعر بالخزي لضعفه والمهانة لجبنه، وتراجع أمامه خوفاً، وابتعد عنه رهبةً، فقد فضحه عمار وكشفه، وأظهر حقيقته وجيشه، فأخرج مسدسه وأطلق النار عليه وقتله، رغم علمه أنه لم يكن يحمل بيده سلاحاً، وأنه كان يقاتله راجلاً ويبارزه فارساً، ولكنها الفطرة اليهودية والطبيعية الصهيونية، المجبولة على الخوف والمسكونة بالرعب، والتي لا تقاتل إلا من وراء جدرٍ أو من خلف حصونٍ تحميهم، هكذا كانوا قديماً وهكذا أصبحوا اليوم، لا يقاتلون وجهاً لوجه، ولا يبارزون عدواً بشرفٍ، ولا يعرفون الفروسية النبيلة ولا العسكرية الشريفة.
ليست هذه هي المرة الأولى التي يسفر فيها الإسرائيليون عن جبنهم، ويظهرون خستهم ونذالتهم، فهم اعتادوا على قتل الأسرى، والاجتماع على الأطفال، والاعتداء على النساء، وإطلاق النار على الجرحى، والإجهاز على المرضى، وإطلاق مئات الطلقات على الشبان الفلسطينيين رغم أنهم يعلمون أن طلقةً واحدة تكفي لقتلهم، لكن الرعب الذي يسكنهم والخوف الذي يسيطر عليهم، يدفعهم إلى إمطار المقاومين برصاصهم، ربما لأنهم يخافون من هذا الفلسطيني الذي قد ينهض كماردٍ، أو ينطلق من بين الرصاص كعمالقة فلسطين وكنعانيهم، فيعاجلهم بضربةٍ تسكنهم أو طعنةٍ نجلاء تقتلهم.
لم يكن عمار مفلح هو الفارس الفلسطيني الوحيد الذي يفضح جنود الاحتلال ويخزي مستوطنيه، فقد سبقه الكثير من شبان فلسطين ورجالها، الذين قاتلوا العدو بشجاعةٍ نادرةٍ وجرأةٍ لافتة، ولست مضطراً أن أستدعي الماضي وأقلب في صفحات التاريخ الكثيرة التي تؤكد هذه المعاني وتبرزها، ويكفي أن نذكر من سجل أيامنا الأخيرة الشهيد عدي التميمي الذي نال منهم في شعفاط، وعجزوا عن النيل منه أو الوصول إليه واعتقاله، إلا أنه أصر على ملاحقتهم ومهاجمتهم، وذهب بنفسه إلى مستوطنة معاليه أدوميم وأطلق النار على حراسها، واستمر في إطلاق النار عليهم رغم عشرات الطلقات التي أصابته، إلا أنه بقي يقاتل واقفاً وقاعداً وزاحفاً حتى لقي الله عز وجل شهيداً.
وليس بعيداً عن الشهيد عدي فقد انبرى كفارسٍ أعظمٍ ومقاتلٍ أشد، الشهيد الشاب محمد سامي صوف، الذي قاتل الاحتلال ونال من جنوده ومستوطنيه، تارةً بسكينٍ وأخرى بمسدسٍ ثم بسيارةٍ دهسهم فيها، ولم يتمكنوا منه وهم مئاتٌ وهو بينهم وحيداً، ينتقل من مكانٍ إلى آخر ويباغتهم، ويذيقهم الموت صنوفاً وهم من أمامه يفرون جزعاً وخوفاً من تجرع كأس المنون على يديه.
رغم هذه الحقائق الدامغة التي يعرفونها عن أنفسهم، ويسجلها التاريخ عنهم، ويشهد عليها جيرانهم ومن عاشوا معهم، وتظهرها بجلاء تفاصيل أيامهم وأحداث كيانهم، ويحفظها القرآن الكريم عنهم، الذي أظهر حبهم لأي حياةٍ مهما دنأت، وخوفهم من الموت مهما عَظُمَ شأنه، ونال المُنى والشهادة من لقي في الوغى حتفه، فإنهم يدعون كذباً وزوراً أنهم خلقوا ليعيشوا فوق أسنة الحراب، وأنهم أشجع من ألسنة اللهب وأسرع من الرياح إذا هبت، وأنهم اعتادوا العيش بين الحروب، وخوض المعارك بينها، وشق الحياة لشعبهم بين الصخور وأعالي الجبال.
طوبى لشهدائنا الأبطال الصناديد، الرجال الشجعان الكماة الأباة الأسود، وألف رحمةٍ من الله عز وجل عليهم، ورفع شأنهم وأعلى ذكرهم، ولعنة الله على بني صهيون الخبثاء الجبناء الرعاديد، وأذلهم وأخزاهم، وجعلهم أثراً بعد عينٍ، ورماداً بعد جمرٍ.
وسوم: العدد 1009