شارع الرشيد: قلب العراق... يتحوّل إلى مزبلة
طوال السنوات العشرين الماضية انهمكت الأحزاب الطائفية الحاكمة في العراق بتقديم أسباب تبرِّر من خلالها فشلها في بناء دولة قائمة على مبدأ المواطنة بعيداً عن سياسات التمييز والعزل والتهميش، وفي الوقت نفسه تكون دولة حديثة وقوية ترعى مصالح مواطنيها بشفافية ونزاهة. كانت تلك الأسباب في مجملها تصدر عن شعور مرتاب بأنّ هناك مؤامرة خارجية تُحاك ضدّ العراق تهدف إلى الإضرار بأمنه والانتقاص من سيادته وتعطيل برامج التنمية التي لم تكشف عنها الحكومات المتعاقبة منذ 2015 حتى الآن.
شارع الرشيد، الذي هو ملخّص بغداد، يكشف عن فضيحة النظام السياسي بعدما تحوّل إلى مزبلة
كلّ الدول المحيطة بالعراق، باستثناء إيران، لها حصّة بدرجة ما في تلك المؤامرة. أمّا سبب استثناء إيران فهو أنّها صارت صاحبة النفوذ الوحيدة في العراق بعدما تخلّى الأميركيون جزئياً عنه، ولذلك سعت إلى تجريده من القدرة على إقامة علاقات طبيعية بمحيطه الإقليمي واستولت على السوق العراقية وكان يهمّها أن تُبعد الأطراف الأخرى عن تلك السوق. وإيران خارج "المؤامرة" لأنّها هي نفسها "المؤامرة" على عروبة العراق ومستقبله. والنظام الإيراني لم يكن في حاجة إلى الضغط في اتجاه تجريد الحكومات من إرادتها الوطنية. فالأحزاب الدينية التابعة لإيران لا تمتلك إرادة وطنية أصلاً، وليست لديها رغبة في أن تؤطّر وجودها بملامح وطنية، ذلك لأنّها ترى انطلاقاً من إيمانها بمقولة الخميني "الإسلام وطننا" أنّ إيران راعية للمذهب، الذي هو النقطة التي تجتمع فيها المنطلقات النظرية للعقيدة.
نظريّة "المؤامرة" وتسويقها
ما لم تفكّر فيه أيٌّ من الحكومات المتعاقبة أن يكون لها قرار سيادي بطابع عراقي خالص.
في وسائل الدعاية التابعة للنظام العراقي، وهو نظام قائم على المحاصصة الطائفية، تمّ التركيز على المؤامرة التي تُديرها في كلّ مرّة واحدة من الدول المحيطة بالعراق لكي لا يتمّ تسليط الضوء على الإهمال المقصود الذي تتعرّض له البنية التحتية لبلد عاش عشرات السنوات حروباً خارجية وداخلية، فكان الحديث المستمرّ عن "المؤامرة" هو الغطاء المثالي للفساد. فعلى سبيل المثال: إمّا أن تتفرّغ الدولة لمحاربة الإرهاب، أو تنشئ شبكة حديثة للكهرباء يمكن أن تتعرّض للنسف في أيّة لحظة.
لكن ليس كلّ ما يحدث في العراق يمكن إحالته إلى الفساد. ففي الحالة العراقية ما هو أعظم من الفساد. فبغداد العاصمة، وهي مدينة تاريخية وعنوان السلطة والتفوّق العلمي والأدبي خلال عصور مضت، قد تمّ ركنها جانباً، باستثناء "المنطقة الدولية" التي سُمّيت بـ"المنطقة الخضراء"، ويقع فيها مقرّ الحكم والسفارات الأجنبية، ومن بينها أكبر سفارة للولايات المتحدة في العالم، والسفارة الإيرانية التي يحجّ إليها السياسيون العراقيون كلّما اختلفوا فيما بينهم.
شارع الرشيد هو بغداد الحقيقية بمحلّاتها السكنية التي كانت بمنزلة قوس قزح لتركيبتها السكّانية المتنوّعة
عاصمة "التفوّق" العبّاسيّ
بغداد بالنسبة إلى سياسيّي النظام القائم هي مدينة مكروهة. ذلك لأنّها بُنيت في العصر العبّاسي الذي شهد حدثاً لن ينساه الإيرانيون، وهو "نكبة البرامكة" التي انطوت على محاولة ناجحة للتصدّي للفساد، وكانت من إنجاز الخليفة العبّاسي هارون الرشيد. لذا تفوق كراهيتهم للرشيد كراهيتهم للمنصور الذي بنى بغداد. وهو ما يفسّر الخراب الذي تعرّض له شارع الرشيد. قلب بغداد ورئتها وخلاصة تاريخها الحديث وسجلّ ما عاصرته من أحداث. كلّ ما ترغب في معرفته عن بغداد هو ملك ذلك الشارع الذي يشقّ جانب الرصافة بمحاذاة نهر دجلة.
شارع الرشيد هو بغداد الحقيقية بمحلّاتها السكنية التي كانت بمنزلة قوس قزح لتركيبتها السكّانية المتنوّعة. أكثر من ثلاثة كيلومترات تمتدّ من الباب المعظّم حتى الباب الشرقي مروراً بـ"أورزدي باك"، وهو أوّل "مول" في الشرق الأوسط، هي خلاصة البعد الحضاري لمدينة مزجت تقنيّات العصر الحديث بعضها بالبعض الآخر. كانت هناك السينما والأزياء والمقاهي الراقية ومكاتب السفر والمكتبات والمسارح والمطاعم التاريخية كخان مرجان والفنادق، إضافة إلى أسواق المهن التقليدية كسوق الصفافير وسوق هرج وسوق الشورجة. وليس في الإمكان التغاضي عن الطابع المعماري لذلك الشارع الذي يتميّز بأعمدته التي خلقت أفياء يلوذ بها العابرون هرباً من القيظ. لكلّ زقاق من الأزقّة التي تتفرّع من ذلك الشارع اسم يُحيل إلى تلك الفسيفساء التي تتشكّل منها بغداد.
شارع الرشيد، الذي هو ملخّص بغداد، يكشف عن فضيحة النظام السياسي بعدما تحوّل إلى مزبلة. فمؤسسات الدولة الواقعة تحت النفوذ الإيراني غير قادرة على التحرّر من كراهية الفرس للخليفة العباسي الذي عاشت بغداد في ظلّ حكمه أبهى عصورها. إنّ الدولة التي تبحث عن حلول لأزمة وجودها من خلال الحديث عن مؤامرات تُحاك ضدّها في الخارج، وإنشاء جسور وهمية مع ذلك الخارج، هي في الحقيقة تهرب من عجزها عن إنقاذ قلبها الذي هو شارع الرشيد.
وسوم: العدد 1012