القوى الفلسطينية في مواجهة الحكومة الإسرائيلية
تلجأ الدول عند الخوف وفي مواجهة الأخطار وتحدي الأعداء، أو عند الحروب والمحن والكوارث والنوازل، إلى تشكيل حكومةِ وحدةٍ وطنيةٍ، تجمع مختلف القوى والأحزاب المشكلة للدولة، وتلتقي تحت سقفها المولاة والمعارضة، والحلفاء والخصوم، لتتمكن من التصدي للتحديات ومواجهة الأخطار التي تتربص بالبلاد، وحماية الشعب وتأمين مصالحه وحفظ حقوقه، حيث تتراجع الاختلافات وتختفي، أو تتلاشى التناقضات وتذوب، وتفرض الحالة الاستثنائية أولوياتٍ جديدةٍ، وقواعد للعمل مشتركة، لا مكان فيها للحزبية ولا للمنافع الشخصية أو المكتسبات المادية، وإنما تتقدم مصالح الشعب وسيادة البلاد وسلطة الدولة، وتتنازل القوى والأحزاب عن مصالحها الضيقة أمام مصالح الشعب العامة والوطن المقدسة.
تلك هي سنة الشعوب وما دأبت عليها الدول والحكومات، والتاريخ يشهد على اجتماع الأضداد وتحالف الخصوم والتقاء الأنداد، عندما تتعرض البلاد للأخطار، أو تعصف بها العواصف والأنواء، ولعل فلسطين وشعبها منذ مائة سنةٍ خلت أولى من غيرهم بهذه المفاهيم والقواعد، فبلادهم محتلة، ووطنهم مغتصبٌ، ومقدساتهم مدنسة، وشعبهم بين نازحٍ ولاجئٍ وشهيدٍ ومعتقلٍ ومطاردٍ ومحاصرٍ، وأرضهم مصادرة، وحقوقهم منتهكة، وخيراتهم منهوبة، وأجيالهم ضائعة، ومستقبلهم مهددٌ، لهذا كله وغيره فقد كان لزاماً على قوى الشعب الفلسطيني وفصائله منذ ما قبل النكبة أن تتحد وتتفق، وأن تتكتل وتتحالف لمواجهة أعتى عدوٍ وأشرس احتلالٍ في العصر الحديث.
ذاك كان واجباً قديماً ولم يزل، إلا أنه اليوم بعد تشكيل الحكومة الإسرائيلية اليمينية الجديدة أصبح أوجب وألزم، بعد أن أعلنت بوضوح عن نيتها تشريع قانون إعدام المقاومين الفلسطينيين، ومنح صلاحياتٍ واسعة للشرطة والحرس الوطني وعناصر الجيش والمستوطنين لإطلاق النار على الفلسطينيين، وعدم التردد في قتلهم حال إحساسهم بالخطر أو اشتباههم فيهم، فضلاً عن عزمها ضم الضفة الغربية، ومصادرة ما تبقى من الأراضي لتوسيع المستوطنات القديمة وبناء المزيد والجديد، فضلاً عن تسريع إجراءات تهويد القدس والسيطرة على المسجد الأقصى، والمباشرة في تأدية الطقوس الدينية التوراتية الممهدة لهدم المسجد وبناء الهيكل الثالث المزعوم مكانه.
أمام هذه الحكومة المتطرفة المستشرية لم يعد أمام القوى الفلسطينية، سلطةً ومعارضةً، وفصائل وتنظيماتٍ سياسية وعسكرية، في الضفة وغزة، وفي الوطن والشتات، إلا أن يكونوا على قدر المرحلة، وأن يتصدوا بقوةٍ للتحديات، وأن يعجلوا باتخاذ مجموعة من القرارات الوطنية، التي ترقى إلى أعلى درجات المسؤولية والأمانة، والتي لا يجوز تأخيرها أو المماطلة فيها، أو معارضتها ومنع تنفيذها، وإلا فإن الوطن سيضيع، والقضية ستصفى، والشعب سيطرد، والمقدسات ستنتزع، وسيعلن العدو عن استكمال مشروعه في فلسطين، وطناً قومياً خاصاً باليهود وخالصاً لهم، لا يشاركهم فيه أحد، ولا يعيش فيه غير مستوطنيه، بينما يقيم فيه الأغيار ومنهم الفلسطينيون بصورةٍ مؤقتةٍ بصفتهم جالية أجنبية أو رعايا دولٍ أخرى.
أمام هذه المستجدات الخطيرة والإجراءات المتسارعة، والنوايا الشريرة، والمخططات الشيطانية، ينبغي على القيادة الفلسطينية إعلان حالة الطوارئ العامة، والمباشرة في عقد حواراتٍ وطنيةٍ شاملةٍ، تفضي إلى تشكيل قيادة وطنية موحدة، تشارك فيها كل القوى والفصائل، تتقدمها حركتا فتح وحماس، بعد إعلان الخروج من اتفاقية أوسلو، والتخلص من كل تبعاتها وإفرازاتها الأمنية والسياسية والاقتصادية، وسحب الاعتراف بالكيان الصهيوني، والعودة إلى الميثاق الوطني الفلسطيني، واستعادة العمل بالمقاومة المسلحة طريقاً وحيداً لتحرير فلسطين واستعادة الحقوق وتحقيق الأهداف الوطنية المشروعة.
قد لا يكون الوقت مناسباً الآن لإجراء انتخاباتٍ تشريعية ورئاسية وأخرى للمجلس الوطني الفلسطيني، رغم حاجة الشعب الماسة إلى انتخاب ممثليه واختيار الناطقين باسمه والمعبرين عنه، وإقصاء منتحلي الصفات ومغتصبي السلطات، والمعتدين على إرادة الشعب وقراره، واستعادة المؤسسات وتجديد الشرعيات، إلا أن الظرف لا يسمح، والوقت لا يكفي، والأخطار لا تنتظر، والعدو يتربص ويحاول انتهاز الفرص واقتناص الأهداف، في ظل استمرار الانقسام وتفاقم سلبياته، وتعمق الخلافات وتعدد التناقضات، وتصدع الجبهات العربية، واختراق البلاد وتطبيع العلاقات وعزل الأنظمة عن القضية الفلسطينية، واستخدامها في الضغط على أهلها والتضيق على شعبها.
لكن الوقت الآن مناسب جداً وضروري للغاية، لإنهاء الانقسام وتحقيق المصالحة، وإغلاق السجون والإفراج عن المعتقلين، ووقف الاعتقالات ومنع الملاحقات الاستفزازية والتضيقات السياسية، ووقف سياسة الاستدعاءات والمقابلات الأمنية، ومنح جميع القوى الفرص المتكافئة للتعبير عن رأيها، وبيان مواقفها، وممارسة النضال والمقاومة بمختلف الوسائل والأساليب المشروعة، فالوقت والظرف لا يسمحان أبداً للانشغال بتوافه الأمور وسفاسف المصالح، وإهمال المصالح الوطنية ومستقبل القضية.
تستطيع القوى الفلسطينية جميعها، سلطةً وفصائل، التنادي إلى عقد لقاءٍ وطنيٍ جامع، يشارك فيه الأمناء العامون للحركات والجبهات، ومعهم ممثلون من النقابات والاتحادات، والوجهاء والنشطاء، والفاعلون والعاملون، إلى جانب ممثلين عن القوى المقاتلة والكتائب العسكرية، والألوية والأجنحة المسلحة، للتوافق على تشكيل مجلسٍ وطنيٍ مؤقتٍ، يقود المرحلة ويتجاوز الاستحقاق، ويختار قيادةً موحدة، وهيئاتٍ ناظمة ومشرعة، ترعى المقاومة، وتصون مصالح الشعب، وتتصدى لمخططات العدو، وتحدد بالتوافق مواعيد زمنية محددة ومحترمة، ثابتة ومقدسة، لا يتجاوزها أحد ولا يبطلها أو يعطلها فريق، لإجراء انتخاباتٍ متزامنة للمستويات الدستورية الثلاثة، وبذا تكون القيادة على مستوى المسؤولية، وتحمل الأمانة بجدارها، وتسلمها للمؤسسات المنتخبة بصدقٍ أمانة، لتتولى قيادة الشعب وحماية قضيته.
بهذه الخطوات الرصينة الموزونة، والقيادة المؤقتة المسؤولة، والبرامج المتفق عليها والمواعيد المقدسة، والكلمة الموحدة والإرادة المشتركة، والوعي الهادف واليقظة الدائمة، مع الصدق والإخلاص، والتجرد والانتماء، يستطيع شعبنا تجاوز المرحلة، والتصدي إلى العدو وإفشال مخططاته، وردعه وزجره عن أحلامه وطموحاته، وكي وعيه وإعادته إلى مربعات الصراع الأولى وثوابته الأصيلة، التي ظن واهماً أنه تجاوزها وانتهى منها، وفرض غيرها وثبت معايير أخرى سواها.
وسوم: العدد 1012