لقاء الأسد - أردوغان: محاصرة "قسد"... وفقط؟
لن تحاول تركيا إنقاذ بشار الأسد ولا ترغب بذلك، بل تريد إنقاذ سياستها السورية قبل الحديث عن أيّ انفتاح على دمشق. والمقايضة في سوريا عمقها تركي - روسي وليس تركي – سوري.
تراجع واستئناف
أقنعت ردّة فعل الشارع السوري، الذي يعارض خطوات الانفتاح التركي على دمشق، وزير الخارجية التركي مولود شاووش أوغلو بأنّ المسألة ليست مرتبطة بـ"مجموعات قليلة تحرّكت لحماية مصالحها الخاصة"، بل هو موقف شعبي وسياسي واسع في مواجهة أيّ خطوة مصالحة أو تطبيع مع بشار الأسد. وقد كان لهتافات المدن والقرى السورية في الشمال صداها على الجانب الآخر من الحدود، وخصوصاً عندما قيل إنّ أنقرة حرّة في سياستها ومصلحتها، لكن لا يمكنها إلزام قوى المعارضة بأيّ انفتاح على النظام في دمشق.
لن تحاول تركيا إنقاذ بشار الأسد ولا ترغب بذلك، بل تريد إنقاذ سياستها السورية قبل الحديث عن أيّ انفتاح على دمشق. والمقايضة في سوريا عمقها تركي - روسي وليس تركي – سوري
حاول شاووش أوغلو القول إنّ المعارضة السورية حاورت النظام في عام 2014، وهي تحاوره في أستانة وجنيف على الدستور السوري الجديد. لكنّ أوغلو أكّد أنّ ما يجمع أنقرة وقوى المعارضة السورية أبعد وأهمّ من أن تتراجع تركيا عن هذه العلاقة التي جعلت منها الطرف الضامن، وأنّها لن تفرّط بهذا الدور.
هل يكفي ذلك للقول إنّ الأمور عادت إلى سابق عهدها، ومحاولة الانفتاح التركي على الأسد وصلت إلى طريق مسدود؟
لا طبعاً، لأنّ القيادات السياسية التركية ما زالت متمسّكة بخارطة الطريق التي تفاهمت عليها مع موسكو، وما يزال لقاء قمّة تركي - سوري وارداً بعد تسجيل اختراق سياسي حقيقي في المفاوضات الأمنية والعسكرية والدبلوماسية القائمة. وهذا ما كشف عنه عمر شليك المتحدّث الرسمي باسم حزب العدالة والتنمية، الذي يردّد أنّ "اللقاءات بين القيادات الأمنية والعسكرية في أنقرة ودمشق ستنضج مع الاتصالات السياسية الأخرى. نحن راضون عمّا وصلنا إليه حتى الآن، والوقت حان لمدّ الجسور بين البلدين".
وقدّم وزير الخارجية التركي الكثير من المعلومات عن المرحلة التي وصل إليها النقاش: الحوار مع النظام السوري مستمرّ ويسير إيجابيّاً، والتفاهمات التركية - الروسية المتعلّقة بسوريا في ذروتها ومتواصلة. وهناك رغبة في إشراك أطراف أخرى تقوّي التفاهمات، فمن يتطوّع لهذا الدور؟ لن تكون عاصمة عربية حتماً، حتى لو رغب البعض بذلك.
طهران قد تسعد بمبادرة من هذا النوع، لكنّ أنقرة وموسكو تدركان حساسيّة الموضوع لدى أكثر من لاعب إقليمي، ولن تتورّطا في المزيد من الاصطفافات الإقليمية. تبقى أستانة التي سبق أن فتحت أبوابها لحوارات علنية وسرّية كثيرة من هذا النوع.
هل يمكن تفسير ما يجري بأنّه اختراق روسي - تركي في اتجاه تفعيل آليّة جديدة تنافس أستانة وسوتشي وتُجلس النظام في دمشق حول الطاولة هذه المرّة؟ وهل هو بداية مسار طويل يتحرّك على مراحل هدفه الأوّل منح أنقرة ودمشق فرصاً سياسية داخلية وخارجية تبحثان عنها في هذه الآونة؟
أكّد أوغلو أنّ ما يجمع أنقرة وقوى المعارضة السورية أبعد وأهمّ من أن تتراجع تركيا عن هذه العلاقة التي جعلت منها الطرف الضامن، وأنّها لن تفرّط بهذا الدور
التحالف والتحاصص
كشف مولود شاووش أوغلو النقاب عن أنّه يُعدّ لزيارة للعاصمة الأميركية في 17 من الشهر الحالي. لا شكّ أنّ المسألة السورية ستتصدّر المحادثات، وستدفع نتائج الزيارة تركيا إلى حسم موقفها وتحديد مدى انفتاحها على نظام بشار الأسد في إطار الخطة الروسية. لا أحد من القيادات السياسية التركية يتحدّث عن التطبيع مع النظام في دمشق . لكنّ مشكلة تركيا هي في تمسّكها بتنفيذ بنود القرار الأممي رقم 2254 في إطار خطة تحرّك جديدة تنهي ورطتها في سوريا. مع من وكيف ستفعل ذلك، وهي تدرك تماماً ظروف وأجواء ولادة قرارات جنيف 1 عام 2012 والقرار الأممي الأخير عام 2015؟
تتحدّث أنقرة عن مسألة "إعادة بناء الثقة" في الحوار بين فرقاء الملف السوري. يقول منطق العلاقات الدولية إنّ ذلك ليس شرطاً في الحوار بين الدول والقوى المتنازعة. الرغبة في الذهاب إلى طاولة التفاوض والبحث عن فرص حماية المصالح والالتزام بتنفيذ الاتفاقيات هي أسباب كافية لحصول كلّ طرف على ما يريده. تتحدّث القرارات الأممية المرتبطة بسوريا عن الانتقال السياسي والدستور الجديد والانتخابات الحرّة والنزيهة، ولا يتطلّب ذلك سوى آليّة ضمانات دولية تنفيذية.
تبحث الدبلوماسية التركية عن حلول مرضية لجميع الأطراف. فكيف ستنجح في إرضاء العواصم الغربية، وتحديداً أميركا، وحلفائها في سوريا، وإقناعهم بأنّ ما تقوم به هو لمصلحة الجميع؟ التحالف في سوريا تركي - غربي، لكنّ الشراكة والتحاصص من نصيب أنقرة وموسكو، وهذا ما يراه الجميع.
يقتنع كثيرون بأنّ أيّ تقارب بين أنقرة ونظام الأسد له ارتدادات سلبية على علاقة تركيا بالغرب. جاءت المؤشّرات الأولى إلى ذلك على لسان الخارجية الأميركية التي أعلنت أن لا فائدة لأحد من الحوار والتفاهم مع بشار الأسد. من بعيد ربّما يكون هذا التشخيص صحيحاً، لكن عن قرب يبدو أنّ الأمور ليست بمثل هذه البساطة. فالعامل الإيراني حاضر، وحصّة إيران ودورها في الصفقة هما اللذان قد يحسمان موقف عواصم عدّة حيال الخطة الروسية - التركية الجديدة في سوريا.
مفاوضات أمنيّة لا تطبيع
ما تردّده القيادات التركية باستمرار هو تمسّكها بالقرار الأممي 2254 بما هو صيغة حلّ وتسوية. وهذا الكلام هو رسالة تركية إلى العواصم القلقة، وقد يطمئنها الموقف التركي لدى انطلاق عجلة التنفيذ المرتبطة حتى الآن بما تقوله أنقرة: ما يجري ليس مصالحة أو تطبيعاً مع النظام، بل مفاوضات أمنيّة في الدرجة الأولى.
لن يقود التقارب المحتمل بين أنقرة ودمشق بتشجيع روسي، إلى تحوُّل كبير في مسار الملف السوري بشقّيه السياسي والأمنيّ، لكنّه قد يخدم التنسيق المشترك بين الطرفين ضدّ مجموعات "قسد" وتضييق الخناق على تمدّدها وخططها السياسية في سوريا
هناك حقيقة أخرى لدى أنقرة: الظروف والمعطيات القائمة ربّما تمنحها فرصة انفتاح على موسكو وتقارب معها من الباب السوري. لكنّ هذه الفرصة لا تمكّنها من تحريك ملفّ الأزمة في الاتجاه الذي تريد. هناك مجموعة من اللاعبين المحليّين والإقليميين القادرين على دفع تركيا وروسيا في اتجاه مراجعة سياساتهما، إذا ما تضاربت مصالحهما وحساباتهما. ليست واشنطن وحدها القادرة على فعل ذلك. هناك تل أبيب وطهران وعواصم عربية وأوروبية.
خيار الأسد الضعيف
توفّر روسيا الحماية السياسية للنظام بقدر ما توفّر له طهران الحماية العسكرية. يطرح الشقّ الآخر ممّا يجري السؤال التالي: هل يملك نظام الأسد خيار تهديد مصالح إيران السوريّة إرضاءً لموسكو وتنفيذاً للمطالب التركية؟
علينا أن نميّز هنا بين تحسين تركيا علاقاتها بالعواصم الخليجية ومصر وإسرائيل، وبين انفتاحها على النظام في دمشق. سياسة أنقرة وأهدافها وهي تفاوض النظام السوري تختلف كليّاً عن قرار المصالحة والتطبيع مع هذه العواصم. في الحالة الأولى كانت الرغبة مشتركة، وتمّ تفعيلها بشكل ثنائي مبرمج ومدروس. في الحالة الثانية هناك أكثر من لاعب وعامل يدخل على الخط ويساهم في رسم معالم مسار العلاقة المستقبلية بين أنقرة ودمشق. ليس بشار الأسد هو من يقرّر شكل العلاقة مع أنقرة وأهدافها ويرسم معالمها، بل حلفاء النظام وداعموه وموجّهوه في موسكو وطهران.
إذاً ما الذي ستبحثه أنقرة مع النظام؟ ملفّ اللجوء؟ كيف سيتحقّق تسهيل عودة 3 ملايين لاجىء إلى أرضهم ليكونوا جنباً إلى جنب مع 6 ملايين نازح في شمال سوريا ينتظرون من يقدّم لهم الدعم والرعاية والحماية، فيما النظام هو أضعف من أن يوفّر الموادّ الغذائية للسوريين القابعين تحت سيطرته؟ وفي مسألة إعادة إعمار سوريا، تعلم أنقرة أنّ الغرب والخليج هما من سيموّل مشاريع من هذا النوع، ولن يتحرّكا إلا إذا تحقّقت توازنات جديدة مناسبة.
هناك خطط الحرب على الإرهاب، والمشكلة اليوم هي تعريف "الإرهابي" الذي ينبغي محاربته في سوريا وأين يوجد ومع من ينسّق؟
لن يقود التقارب المحتمل بين أنقرة ودمشق بتشجيع روسي، إلى تحوُّل كبير في مسار الملف السوري بشقّيه السياسي والأمنيّ، لكنّه قد يخدم التنسيق المشترك بين الطرفين ضدّ مجموعات "قسد" وتضييق الخناق على تمدّدها وخططها السياسية في سوريا. هذا كلّ ما يمكن أن يتفاهم عليه الرئيس التركي إردوغان مع بشار الأسد.
وسوم: العدد 1014