قاوموا بإنسانيّتكم
مادونا عسكر
إنّه العصر الأسوء والأفظع والأعنف! فما يحصل من حولنا هو الجحيم بعينه، وعلى الأرجح أنّه لا جحيم ينتظرنا بعد الموت أسوء من هذا الّذي نعيشه اليوم. إنّه عصر البربريّة والهمجيّة، وعصر المأجورين والموكلين بقتل البشر دون أن يرفّ لهم جفن، واعدين أنفسهم بجنّة في أغلب الظّنّ غير موجودة!
إنّه عصر اللّامبالاة والفتور الإنسانيّ والاعتياد على مشاهدة الدّم، وقطع الرّؤوس، وأعداد هائلة من المشرّدين والمنفيّين، ومسلوبي الكرامة واحترام الكيان الإنساني. فالمشرّدون والمعذّبون والمخطوفون والقتلى لا يعنون شيئاً للعالم، وليسوا سوى مجرّد خبر استهلاكي في الوسائل الإعلاميّة، ومن يسبق في نشر الخبر هو الرّابح الأكبر على جميع الأصعدة. إنّه عصر الثّرثرة والفوضى والغوغائيّة والغوص في التّحليلات الفارغة وفلسفة الفلسفة واجترارها، كلّ بحسب انتمائه ومصلحته، ثمّ نشرها هنا وهناك، تحت تعريف حرّيّة الرّأي والتّعبير، والمصلحة العامّة ومصلحة الوطن، وإلى ما هنالك من شعارات لا تعدّ ولا تحصى.
كلّ شيء يتطوّر ويتقدّم وأمّا إنسانيّة الإنسان فتنحدر إلى أدنى درجات الجهل والانحطاط والقمع والاستغلال، ولا ندري كم من الوقت ستدوم هذه الحقبة وعلى الأرحج ستدوم لوقت طويل، إلّا أنّ الحقبة الّتي ستليها ستكون المرحلة الأشدّ قسوة لأنّ فيها سيسود هدوء المعارك لتتّضح لنا النّتائج المزرية إن على المستوى المادي أو النّفسي أو الفكري. ولن يحيا الجيل القادم بشكل أفضل من الجيل الحالي، لأنّه ببساطة من يربّي ويدرّب ويلقّن الجيل القادم هو الجيل الحالي الّذي يفتقر بأغلبه إلى الثّقافة والاستقلاليّة والسّلام الدّاخلي. وإن كان بوسع أحدهم أن يخمّن أو يتكهّن بالأمور الّتي تحصل من حولنا فهو واهم. فليس من أحد يمكنه معرفة ما يحصل أو ما سيحصل، وكلّ ما في الأمر تحليلات وتكهّنات لأمور حصلت أو استدعاء أحداث تاريخيّة ومحاولة إسقاطها على الأحداث الحاليّة.
وسط هذا الضّجيج والصّخب الّذي يصيب الأعين والبصائر بالعمى، ويبلي الآذان بالصّمم والضّمير العالمي بالخرس، لا بدّ من مقاومة! وليس الحديث عن مقاومة بالسّلاح والدّخول في متاهات السّياسة والوقوع في فخّ خدعة الحروب، فالحروب لا تؤدّي إلّا إلى تدمير وهدم كلّ القيم الإنسانيّة، ونتيجتها حتماً هزيمة وانكسار حتّى في حالة الانتصار. فالانتصار في الحرب خسارة، والهزيمة انكسار وضياع.
لا بدّ من مقاومة لهذا الوحش الّذي يريد التهام كيان الإنسان وقيمه وإنسانيّته في صلب جوهرها، ويزرع غصباً الحقد في القلوب، والجهل في العقول، والاضّطراب في النّفوس، ويخرّب كلّ ما هو جميل، ويدنّس كلّ ما هو مقدّس...
هي دعوة لأبناء النّور والمحبّة، أؤلئك الّذين يرفضون السّلاح وقتل الإنسان وانتهاك حرمته وقدسيّته. يوماً سينتهي كلّ هذا الضّجيج وعلينا أن نكون جاهزين لنزرع الجمال من جديد، وننشر المحبّة وندعو للقيام بالإنسان. لا نريد في ذلك اليوم أن نتحسّر على ماضٍ أليم، وننتحب على ما لم نقم به من واجب.
قاوموا هذا الوحش بإنسانيّتكم، بالجمال السّاكن في عمق أعماقكم. قاوموه حتّى النّفس الأخير، فهذا الوحش وإن أمكنه قتل الجسد فهو لا يستطيع أكثر من ذلك. تخلّوا عن تلك المهاترات السّياسيّة والإعلاميّة، والحوارات الفارغة، والمشاهدات الدّمويّة. لا تصغوا لمن يحرّضكم على بعضكم البعض ويثير البلبلة في نفوسكم، ويضرم نار الحقد في عائلاتكم وبيوتكم وبين أهلكم وأحبّائكم. تخلّوا عنهم، فحقدهم لا يطعم جائعاً ولا يأوي مشرّداً ولا يستعيد وطناً تاهت ملامحه في مصالحهم، ولا يعيد لكم كرامتكم الّتي اغتالوها بشرّ أعمالهم.
قاوموا بإنسانيّتكم.
فليدخل الكاتب الفرح والأمل إلى قلوب النّاس، وليدوِّ الحبّ والسّلام في قصائد الشّعراء، وليطلق الرّسّام العنان لريشته ترسم الحسن والجمال. ليشّجع الآباء أبناءهم على المحبّة والآخاء، وليجذّروا فيهم ثقافة الإنسانيّة، وليسعَ المعلّم والمثقّف إلى نشر العلم بكلّ الإمكانيّات ورغم كلّ الظّروف. غداً ستطلع شمس جديدة من خلف هذا الظّلام، وستنفجر الحياة من عمق هذا الموت، فلنكن حاضرين للانطلاق من جديد.