الفقه علم وفطنة وله أصول وقواعد ومبادئ و أطر .. وبين الفقيه والواعظ قرابة .. ولكن من الدرجة السابعة
وأول حلقة جلسنا فيها لدراسة الفقه بين يدي الشيخ، في جامع زكي باشا في حلب، حكى لنا الشيخ حكاية علم الفقه، وأهميته، وبعد غوره، وطرح علينا السؤال التقليدي، الذي أكد أنه يطرح على كل دارسي الفقه من الجادين: هل ركبت البحر قط؟؟
تأكيدا على أهمية العلم، وخطورة مسلكه، وبعد غور مسائله، على بعض السالكين.
ذكرني عنوان مدارس "إمام وخطيب" المشهور في المدارس التركية، بعنوان بعض المعاهد الشرعية في سورية، والتي كان واضعو مناهجها، ومبرمجو برامجها، يطمحون إلى تغطية حاجة المساجد من الأئمة والخطباء. الإمام والخطيب الذي يتقن التزاما وتعليما فقه الطهارة والعبادات ولا سيما الصلاة وما هو أولى بها..
وأمسك بمختصر مراقي الفلاح، أو كفاية الأخيار، أو متن أبي شجاع، ثم أمسك بالمبسوط وبدائع الصنائع وحاشية ابن عابدين، أو بالمجموع للنووي أو بالمغني فأسأل أو أتساءل، هل من اكتفى اشتفى؟؟
وكنت عندما قررت أن أدرس كتب علوم كلية الشريعة المقررة على طلابها في دمشق، قد اتقنت فيما درست "تحفة الفقهاء" للسمرقندي، بأجزائها، وعلمت ان مقررها قد توقع انه يكفي ولكن لا يشفي.
وكيف حال من لم يمر الجوامع الكبرى من فقه ومن أصول، ومن كتب فتاوى، كتبت مؤطرة محكمة…
هي مجرد تساؤلات..
وأمضي أكثر وأتذكر ونحن ما زلنا في القرن الأول، وأرى سيدنا علي رضي الله عنه يطرد القصاص من مجالسهم في مساحات المسجد!! وأسمع الإمام الشعبي يجيب من سأله عن اسم زوجة ابليس: ذاك عرس لم أشهده. وأسمع قصاصا آخر: يقول وقد كان اسم الذئب الذي أكل يوسف.. ويقطع عليه الطريق نابهٌ، فيقول له: ولكن الذئب لم يأكل يوسف، فيستدرك على نفسه فيقول: اسم الذئب الذي لم يأكل يوسف..
وتشعر ان الأمة أمام ما صار إليه الحال، أصبحت في ورطة حقيقية، وربما ما زالت.
يعلم الفقهاء الحقيقيون أن الفقه علم دقيق، وأنه أدق من جراحة الأعصاب والعيون. وأن الهجوم عليه بساطور الجزار مما لا يصلح ولا يكون. وأن الفعل الواحد أحيانا تعتوره الأحكام السبعة عند أصحابها، والخمسة عند غيرهم، وأنه بتغير الظرفين أو تغير المكلف المعني تتغير الفتوى. وأنه بين مرتبة الفقيه حين يفتي فلا يخرج من فمه كلمة حلال او حرام. جائز أو مكروه إلا بعد تبصر وتأن، وتقليب الأمور…، وبين قول الواعظ في الترغيب والترهيب بون كبير.
يجلس على الهواء ويستقبل السؤال: من القصيم أو من بوسطن، فيجيب السائل والسائلة بالجواب نفسه، وقد يعترضني معترض وأن هذا من عظمة الاسلام!!
وقد كان لابن القيم قول عظيم في الرجل يفتي الرجل او المرأة وهو لا يعرف عوائدهم ومستقرات أعرافهم، وما توافقوا في حياتهم المجتمعية عليه. هو فضيلة الشيخ ودائما تقطع جهيزة قول كل خطيب. يقول لك: أما علمت ما قال الشيخ فلان في الإزار: وأنت لم تعرف يوما ما هو الإزار…!!
ولبعد نظر، وحرص على مزيد من التدقيق جعل الأحناف عناوين الأحكام سبعة، فحرام وقريب منه، ومباح وأبعد عنه. وفرض وواجب ومندوب. وقال الفقهاء: سنة، وسنة هدي، وسنة عادات. وقبل الصابون يا عرب كان الأشنان، وقبلهما كانت اللحى، وكانت الأعقاب المتشققة، تُليّن ببقايا الودك.
وطلب صاحب البريد في حضرة عمر المنديل ليمسح يديه، بعدما أكل، فقال له عمر: امسح… أحذر ان أكملها خوفا…
ويميز الفقيه بين حرام لذاته وحرام لغيره، ويفهم جيدا معنى فاجتنبوه، ومعنى ولا تقربوا، ومعنى من حام حول الحمى يوشك ان يقع فيه. يحذرك أن تحوم حول الحمى، ويجرم الفقيه فقط من يقع فيه. كل السرقة حرام ولكن لا قطع فيمن سرق أقل من نصاب، ولا حد على من لم يسرق من حرز يليق بالمسروق…!!
عندما يجلس المتورط في المعصية بين يدي الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فيسأله لعلك.. لعلك.. لعلك ..
الفقيه المتمكن الأمكن هو الذي يميز بين جريرة لعلك الأولى، والثانية ، والثالثة، ونعود إلى حكاية العرب والصابون.
والواعظ يصيح على العرندس: لأن يوجأ رأس أحدكم بمحجن خير له من أن يمس.. كلنا نحفظ الحديث..
ونخفط حديث الذي سأله الرسول الكريم: أصليت معنا العصر؟؟
بغض النظر عن علم الإسناد، كلنا يجب ان نملك أثارة من علم تميز بين حكم الفعل الأول والثاني والثالث، فيما سأل عنه الرسول. وبين ما وقع فيه سيدنا ماعز رضي الله عنه..
لا يجرؤ أحد ان يقول إن جرم ذاك كان ببساطة هذا، أنا لا أجرؤ أن أحكي ما ذا فعل ولا ماذا قال..
مقبول من الواعظ ان يحذّر حتى من اللمم، وقبيح من الفقيه في مقعد الفتوى أن يخلط بين اللمم والفاحشة.
للفقه الشرعي الاسلامي قواعده ومصادره ولغته وأحكامه ومصطلحاته، واصطحاباته وعمومه وخصوصه وظرفاه.
ولأحكام الشريعة ما نحكي تقديرا عن حكمتها، وما قرر الفقهاء الراسخون عن عللها، منضبطة وغير منضبطة. والمنضبطة فقط تكون معيارا للتحريم. واعتمدوا ان علة تحريم الخمر الاسكار، والإسكار هو تغييب العقل، فكل ما غيب العقل فهو حرام. ومن هنا انضبطت علة الحاق المخدرات بالخمر، وليس عموم الضرر كما ظن الظانون، وقدر الذين لا يعلمون.
أكل السكر بالنسبة لمريض السكري متحقق الضرر، ولكنه لا يمكن أن يكون بالنسبة إليه كشربه الخمر أو أكله الخنزير!!
وفي فتوى الفقيه الجماعية العامة او الفردية الخاصة، لا يكون المرجع فقط النص، ولكن النص والبيئة والعرف والجنس والعمر ، وعموم البلوى، وشيوع المستحكم من العادات، وما لا يسع المسلم جهله واختلافه من دار لدار، وبين حديث عهد في الاسلام او في الالتزام..
وحفظ نصا او قاعدة أو قولا فاحتمله عرضا كعارضة خشبية، يزيح بها الناس عن طريق الاسلام.. وربما أصبح هذا فيما نحن فيه من عموم البلوى..
(وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ)
وسوم: العدد 1017