لا يُلام الذئب في عدوانه/ إن يك الراعي عدو الغنم

رحم الله الشاعر عمر أبو ريشة، ابن محافظة حلب، الذي وكأنه كان يستشرف المستقبل بهذا البيت الذي بات حكمة سوداوية في الذاكرة الشعبية السورية تحديداً، والعربية عامةً.

مناسبة هذا الكلام زيارة بشار الأسد إلى حلب بحجة زيارة جرحى الزلزال، ومواساة أهالي الضحايا، إلى أن تبين للناس جميعاً، وبالصوت وبالصورة، أنها كانت مجرد زيارة استعراضية بمعية قادة الميليشيات الإيرانية الغرض منها هو التبجح بأفعاله وصموده المزعوم على مدى 12 سنة من الحرب التي أعلنها على السوريين بدعم ومساندة مباشرين من الروس والإيرانيين.

فالروس زوّدوه بالأسلحة، ثم تدخلوا بقوتهم العسكرية الوحشية عام 2015 التي استهدفت بصورة خاصة المناطق السكنية والمشافي والمدارس والأسواق الشعبية. كما غطوه سياسيا في مجلس الأمن عبر استخدام «حق النقض/ الفيتو» (استخدمت روسيا في الفترة ما بين 2011 إلى 2022 حق النقض 17 مرة، من بينها 10 مرات وقفت إلى جانبها الصين) بهدف تعطيل القرارات التي كانت تدعو إلى عملية انتقال سياسي فعلية في سوريا، وتقديم المساعدات الانسانية للمنكوبين في سوريا.

أما الإيرانيون فقد تدخلوا منذ الأيام الأولى للثورة السورية 2011 بقوات الحرس الثوري وبأذرعهم من الميلشيات المذهبية (حزب الله، الفاطميون، الحيدريون، الزينبيون…) التي جلبوها من لبنان والعراق وأفغانستان وحتى باكستان؛ وكل ذلك ما كان له أن يتم، ويتسبب في تدمير سوريا مجتمعاً وعمراناً لولا ركون الدول المؤثرة في المجتمع الدولي (ونعني بها الغربية تحديداً لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية) إلى موقف التظاهر بالعجز بناء على آليات مجلس الأمن المشلول، وهي آليات اعتمدت من قبل نظام دولي لم يعد موجوداً أصلاً.

فالدول المعنية هنا كان يمكنها أن تتصرف من خلال مجموعة أصدقاء الشعب السوري التي ضمت في وقت من الأوقات أكثر من 100 دولة، وامتلكت من الشرعية ما لم تمتلكه بعد مجموعة الناتو التي أمدت، وتمد أوكرانيا بكل شيء رغم عدم وجود قرار أممي صادر عن الجمعية العامة أو مجلس الأمن في المنظمة الدولية ينص على ذلك.

وبالعودة إلى موضوع الزلزال وزيارة بشار الأسد إلى حلب، نلاحظ أن الأخير ما زال يدعي بأنه صمد أمام المؤامرة الكونية المزعومة التي لو وجدت بالفعل لكان هو وسلطته الآن في خبر كان؛ بل لو لم تتدخل الدول بالطريقة التي فعلت في الوضع السوري لحسمت الأمور لصالح الشعب السوري. ولكن الذي حصل هو أن إرادات الدول قد توافقت بناء على حسابات مختلفة بالإبقاء عليه، الأمر الذي كلف السوريين مقتل نحو مليون إنسان وتهجير أكثر من نصف السكان، فضلا عن تدمير البلد، وتغييب مئات الآلاف، وبروز عشرات المشكلات الاجتماعية والصحية التي ستستمر على مدى عقود قادمة.

واليوم يزور بشار الأسد سوريين يحقد عليهم، بل لم يوفر سلاحا إلا واستخدمه ضدهم، وفتح البلاد أمام الجيوش والميليشيات وشذاذ الآفاق الذين انتهكوا كل الحرمات وارتكبوا أفظع الجرائم، ليحمي نفسه بهم من غضب السوريين وثورتهم على سلطته المستبدة الفاسدة المفسدة.

ولكن الجميع يعلم أن هذا الحاكم بأمر غيره ما كان في استطاعته أن يفعل ما فعله، ويستمر منتظراً التعويم مجدداً بجهود حلفائه، وحسابات القوى الدولية والإقليمية لا سيما إسرائيل التي وجدت فيه الأفضل لمصلحتها، بعد أن جربته، وتأكدت من التزامه بالشروط المتفق عليها مع والده. فقد اكتفى المجتمع الدولي بإدارة الأزمة كما قيل مراراً، ولم يساعد السوريين على الخلاص سلماً أو حرباً كما ذهب إلى ذلك نيقولاس فان دام في كتابه «تدمير وطن».

وردود الأفعال الدولية التي تابعناها في الأسبوع الأول من الزلزال الذي تعرضت له مناطق واسعة في جنوب وجنوب شرق تركيا، ومناطق  كثيرة في سوريا، خاصة في الشمال الغربي، وهي مناطق كانت تعاني أصلاً من الهشاشة بفعل ظروف الحرب التي فرضتها سلطة بشار الأسد على السوريين؛ أكدت مجددا استمرارية السلبية الدولية ذاتها في التعامل مع الشأن السوري، خاصة من جانب هيئة الأمم المتحدة، والمنظمات التابعة لها، التي تذرّعت بالآليات البيروقراطية، ولم تعمل على تأمين المعدات المطلوبة لرفع الانقاض وإنقاذ الناس في الوقت المناسب، الأمر الذي أدى إلى موت الآلاف من الذين كان يمكن إنقاذهم. كما تقاعست الجهات المعنية عن تقديم الاحتياجات المطلوبة للناجين. هذا في حين أن السوريين رغم ظروفهم الصعبة، لم يقصروا في مساعدة بعضهم بعضاً، ولكن هناك أمور لا يمتلكونها، ولا يستطيعون تأمينها كآليات ومعدات رفع الانقاض ومعدات البحث عن الناجين، والدواء والخيام والألبسة ومستلزمات التدفئة وغير ذلك من الاحتياجات الضرورية. وهنا لا بد من توجيه الشكر إلى الدول والجهات التي قدمت المساعدات إلى السوريين في مختلف المناطق، سواء تلك الخاضعة لسيطرة السلطة أم المعارضة، فهم جميعا سوريون يستحقون المساعدة طالما هم في حاجة إليها.

وكان من اللافت أن سلطة بشار الأسد قد تلقفت الزلزال فرصة تحاول من خلالها فك العزلة عن نفسها، والسعي من أجل رفع العقوبات الدولية المفروضة عليها، أو تجميدها على الأقل. ويشار هنا إلى أن هذه الجهود كانت قد بدأت قبل الزلازل بحملة علاقات عامة استخدمت فيها السلطة المعنية بعض المرتبطين بها، كما استفادت من جهود دول عربية تسعى بشتى السبل إلى التطبيع معها، وحجتها في ذلك أنها سلطة أمر واقع لا بد من التعامل معها، من دون إعطاء اي اعتبار لمسؤولية هذه السلطة بصورة مباشرة عن مآسي السوريين التي كانت، وتلك التي ستكون في حال استمراريتها.

والمناسبة هنا تلزم بالتوقف عند الأداء الهزيل لواجهات المعارضة الرسمية بأسمائها المختلفة، التي لم تتمكن من مواكبة الحدث المأسوي الكبير اعلاميا ولا دبلوماسياً، ولا حتى شعبياً إذ غابت عن الناس في الميدان؛ وذلك على عكس العاملين والمتطوعين في فرق الدفاع المدني (أصحاب الخوذ البيضاء) الذين قرروا منذ اللحظة الأولى أن يعملوا رغم ضآلة الإمكانيات المتاحة قياساً إلى جسامة المطلوب؛ وتمكنوا بآلياتهم المحدودة العدد، وأدواتهم البسيطة، وأياديهم العارية. وبهذه المناسبة أيضاً، لا بد من تقدير المساعدات العاجلة التي وصلت من بعض الدول العربية خاصة الخليجية منها ومن إقليم كردستان العراق.

وربما كان من غير الواقعي هنا، أن نقارن بين التعامل الذي كان مع نتائج الزلزال وارتداداته الكارثية في كل من سوريا وتركيا.

ففي تركيا توجد دولة وحكومة فاعلة. كما أن إمكانيات البلد ووجود المؤسسات المختصة بالكوارث، والخبرات المتراكمة في ميدان التعامل مع الزلازل، إلى جانب التضامن الدولي الواسع؛ كل ذلك ساعد، ويساعد في التخفيف من حدة المأساة رغم هولها، فالزلزال ضرب عشر ولايات تركية واسعة مأهولة، وتسبب في تدمير مدن بصورة شبه كاملة.

أما في سوريا فالوضع كارثي بكل ما تعنيه الكلمة من أبعاد ودلالات. فسلطة بشار الأسد لا تسيطر في الواقع العملي على الأوضاع، بل هي تنصلت من كل مهامها على صعيد ضرورة تأمين الحاجات الأساسية للناس في المناطق الخاضعة شكليا لسيطرتها، لكنها عملياً تحت هيمنة الروس والإيرانيين الذين ألحقوا بالمجتمع والعمران السوريين، وبالاشتراك مع السلطة الأسدية، من الأضرار ما لا يمكن لأي زلزال مهما بلغت شدته وفق مقياس ريختر أن يفعله. وكل ذلك في سبيل الإبقاء على سلطة بشار الأسد لتكون مفتاحهم إلى شرقي المتوسط.

ولكن مع ذلك كله، كان العالم في طريقه إلى نسيان المحنة السورية بعد أن تجاهلها وتناسها في السنوات الأخيرة، خاصة بعد الحرب الروسية على أوكرانيا. إلا أن زلزال الطبيعة ذكّرهم مجددا بالزلازل الأسدية المستمرة في سوريا منذ عامً 2011، وهي الزلازل التي اكتفى المجتمع الدولي بمعالجة نتائج ارتداداتها الثانوية، وغض النظر عن أسبابها الجوهرية. فمناطق الشمال السوري سواء في الغرب أم في الشرق تعاني أصلا من شبه انعدام في الخدمات الأساسية (الماء والكهرباء، ومن انهيارات في أنظمة التعليم والصحة)، كما يعيش الناس أزمة اقتصادية خانقة في واقع الرواتب الخلبية نتيجة السقوط الحر لقيمة الليرة السورية، والارتفاع الأسطوري في الأسعار.

ومرة أخرى نعود إلى ما كتبه الشاعر السوري الراحل أبو ريشة في القصيدة ذاتها قبل نحو ستة عقود: «أمتي كم صنم مجّدته/ لم يكن يحمل طهر الصنم». فالتماثيل في مختلف أنحاء العالم تقام تقديراً وتخليداً لذكرى أولئك الذين قدموا لمجتمعاتهم، أو للإنسانية من الإنجازات المفيدة التي تستحق التقدير والاعتراف بالفضل، أو يجسّدون قيماً إنسانية وجمالية. أما التماثيل التي تقام في بلداننا، وسوريا في مقدمتها، فهي أصنام بائسة يتاجر بها الانتهازيون، وينبهر بها البسطاء، فتكون الشعوب والأوطان قرابين على مذبح ملذات الحاكم ونزواته.

وسوم: العدد 1020