ثقافة الانتظار والتَّأخير عند العرب...
د. محمد عناد سليمان
من أجمل ما ترى عند «الغرب»، وصول «الحافلة» عند وقتها المحدَّد، دونما تأخير، أو إبطاء، حتَّى إنَّك إن وصلت بعد ثوانٍ معدودات من موعدها،لا يتكلَّف«السَّائق» عناء الانتظار، وإن وصلت إلى الباب، ويكتفي بابتسامة لطيفة، ممزوجة باعتذار مضْمَر، علمًا أنَّ الاعتذار واجب على المتأخِّر وهو «الرَّاكب»، وليس على الملتزم وهو «السَّائق».
والأجمل في الموقف ذاته، هو الثَّقافة المصطنعة التي تتكلَّف إظهارها، لأنَّك لم تعتد عليها، من كبْتٍ للغيظ، وتحكُّمٍ بالغضب النَّاتج عن وصولك متأخرًا لثوانٍ معدودات، واستعدادك للانتظار ربع ساعة أخرى، إلى حين وصول «الحافلة» اللاحقة، لأنَّك لم يسبق لك اعتياد هذا الموروث الثَّقافي الذي يتنبَّه على أهميَّة الوقت، واحترام الآخرين من خلال الحفاظ على أوقاتهم.
يتبادر إلى ذهني طرف نقيض تمامًا ممَّا عانيته في بلدي، وأنا ابنها، وسليل ثقافتها، وحضارتها المبنيَّة على حبِّ التمَّلك والتفرُّد، والخوف من المجهول، والحفاظ على ما بين الأصابع، والحرص الزَّائف على ما تكسبه «الشَّطارة» من دون نظر إلى حلال أو حرام، والاستباق إلى ما بين أيدي الآخرين.
تنسلُّ إلى ذهني مواقف شبيهة إلى حدِّ كبير من الجانب الآخر والمعاكس لمثل هذا الموقف العظيم، بحكم عملي السَّابق ك«سائق حافلة» في بلدي، الذي لم يرعَ نظامُه حرُمَةً ل«لعالم»، أو كرامةً ل«لمتعلِّم»، وأنَّى له ذلك!! لأنَّ فاقد الشَّيء لا يعطيه. من هذه المواقف أنَّ «الراكب» أو ما يسمَّى «زبونًا» يلوِّح بيديه على بعد «كم متر»تقريبًا، ويمشي الهوينى، يجمعنا قاسم مشترك، وهو الترنُّم بصوت «فيروز» الصَّباحيّ، على أغنية «جايبلي سلام»، أو «سلملي عليه»، وكأنَّ حاله يقول لك: «انتظرني حتى أصل»، علمًا أنَّك لا تقف في موقف نظاميٍّ أصلا، لعدم وجوده، فهو لا يتوفَّر إلا في كتب الدِّراسة، والأغرب حينما يتنازع «الركَّاب» هذا الموقف بين «مؤيِّد» لانتظار«الزَّبون» القادم، و«معارض» لذلك، وأجزم بأنَّ «المعارض» أيضًا لا يدفعه إلى «المعارضة» حبُّ العمل، والالتزام بوقته؛ لأنَّه ليس من شيمته الثَّقافيَّة؛ بل ليطمئنَّ أنَّه وصل بأمان، ولم تتفلَّت «عجلةٌ» ما، لترى سبيلها وحيدةً على قارعة الطَّريق، أو ينفجر أحدها مُعلنًا بحصول حادث يقرِّبه من الموت باعًا؛ لأنَّه أقلُّ ثمنًا من دخوله «المشفى» أو ما يسمَّى ب«المسلخ الشَّاميّ».
وما إن تتقارب وجهات نظر الفريقين المتنازعين حتى يقترب «الزَّبون» من «الحافلة» لأمتار قليلة، فتتخذ قرارك بالمغادرة، لعدم وجود مكان شاغر في معظم الأحيان، إلا مكانك، وهناك من يتمنَّى الحصول عليه، والتَّمتُّع بالجلوس على «الكرسيّ»، وإن لم تبرح «الحافلة» مكانها. قرار فتح على صاحبه نارًا من الويلات والشَّتائم، ابتداء من«ينعن أبو اللي أنطاك الشَّهادة، على أبو اللي راكب معك»، «الحق مو عليك، الحق على اللي بدو يركب معك»، «مفكرها سيَّارة اللي خلَّفو»، «شقفة شوفير عامل حاله وزير»، «أنطيني شي حجر خليني أكسرلو البلَّلور»، إلى شيء من «البصاق»، وكلام آخر لا تفهم معناه في غالب الأحيان، إلا أنَّك تصل إلى قناعة مفادها: «أنت أرذلُ البشر وأحقرها». مع العلم أنَّك من أبناء الشُّيوخ والعشائر، وتحمل شهادتك العليا في اختصاصك الدِّرَاسيّ، ولديك شهادة «الخمسة الأوائل» على دفعتك، وإنَّما ظلم«النِّظام» وقهره، واحتلال أرضك، كأحد أبناء محافظة «القنيطرة»، وحرصك على متابعة تحصيل علمك، دفعتك للعمل في هذه المهنة، التي من المفترض أن تكون من أشرف المهن. وأستطيع أن أجزم أيضًا أنَّ «الراَّكب» المتأخِّر ذاهب في أحسن أحواله إلى سرقة ما يتوفَّر لديه من محلات «المجرشة الصِّناعيَّة»، أو جمع «النُّحاس» وبقايا «الحديد» من مدينة «حوش بلاس».
وفي هذا المقام أذكر امرأة طاعنةً في السِّنِّ، قد بلغت من العُمر عِتيًا، كانت تنتظرني كلَّ يوم «أربعاء» في ساحة «الأشمر»، أو موقف «الدَّحاديل»، تحمل كعادتها كيسًا على ظهرها، أخبرتني أنَّها تملؤه بما تجمعه من «الخبز اليابس»، لتبيعه وتستفيد من ثمنه، وبما أنَّ معظم «السَّائقين» يأنف من أخذها، فأجد في نفسيي شفقة عليها، فأقف عندها، وأساعدها في حمل «الكيس» ورفعه إلى «الحافلة»، وأمازحها بكلام لطيف، لأخفِّفَ عنها انتظارها، وصبرها، وتحمَّلَها الحرَّ الشَّديد، وتبادر كعادتها أيضًا إلى طلبها المعتاد: «شو أنطيني شُربة مَيْ»، فأسارع إلى تلبية رغبتها.
وفي مرَّة من المرَّات بعد أن ركبت، وجلست في «الكرسي» الذي يخلفني مباشرة كعادتها، وتضع حملها أمامها، كانت «سيّارة» فارهة من نوع «مرسيدس» تسير أمامي ببطء شديد، وفي منتصف الطَّريق، حيث يغلق عليَّ التَّجاوز، فقلت في نفسي بصوت مرتفع: «لو معي سيارتك كنت طلعت فوق النَّاس»!! فما كان من هذه العجوز إلا أن ردَّت عليَّ قائلة: «الحمد لله يا ولِيدِي اللي ما معاك، مشان ما تدعس حدا». فما أجملها من كلمات خرجت من فِيهَا، في دلالة لا يشوبها شكٌّ على الطِّيبة والسَّذاجة والبراءة.
وبين هذا وذاك تسرح بي ذاكرتي في ظلِّ هذه المواقف إلى البحث عن لفظة هي من صميم كلامنا، ولهجتنا، والسُّؤال عن سبب إبدال «العين» «طاء» فيما سمعت وأسمع من قولهم: «أنطيني»، وهم يقصدون: «أعطني»، خاصَّة وأنِّي محسوب على أهل الاختصاص في هذا المجال، فما إن أصل منزلي حتى أدخل بين ثنايا «أمَّات» الكتب، بحثًا عن أصلها، وفصلها، وصحَّتها من عدمه، فتتكشَّف لي أبوابٌ من العلم كنت أجهلها، لأجد أنَّ «الطاء» تُبدل من «العين»، في مواضع شتَّى، وأنَّها لغة فصيحة لبعض العرب، ك«سعد بن بكر»، و«هُذيل»، و«قيس»، و«الأنصار»، ومن ذلك قول «الأعشى»:
جيادُك خيرُ جيادِ المُلوكِ |
|
تُصانُ الحَلال وتنْطِي الشَّعيرَا |
بل إنَّ بعض القرَّاء ك«الحسن»، و«طلحة»، و«ابن محيصن»، و«الزَّعفراني» قرأ قوله تعالى: «إنا أَنْطَيْنَاك الكوثر» ب«النُّون»، وهي قراءة مرويَّة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، وقال «التَّبريزي»: «هي لغة لبعض العرب العاربة من أولي قريش». وقد ورد بعض الأحاديث المنسوبة إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم ينطق بهذه اللَّهجة، من مثل قوله: «اليد العلياء المنْطيَة، واليد السُّفلى المنْطاة»، وقوله: «وانطوا الثّبجة».