أميركا المغضوب عليها.. ونحن الضالّون!
صبحي غندور*
لم تكن رؤية البلاد العربية للولايات المتحدة الأميركية في مطلع القرن العشرين كما هي عليه الآن في مطلع القرن الجديد. بل على العكس، كانت أميركا بنظر العرب آنذاك هي الدولة الداعمة لحقّ الشعوب في تقرير مصيرها، وهو الأمر الذي أكّدت عليه "مبادئ ويلسون"، وهي 14 مبدأ قُدِّمت من قِبَل رئيس الولايات المتحدة وودرو ويلسون للكونغرس الأمريكي بتاريخ 8 يناير 1918بعد الحرب العالمية الأولى. واستمرّت النظرة العربية الإيجابية لأميركا طيلة النصف الأول من القرن الماضي، خاصّةً أن أميركا لم تستعمر أو تحتل، قبل حربها الأخيرة على العراق، أيَّ بلدٍ عربي (كما كان حال عدّة دول أوروبية)، ووقفت واشنطن في العام 1956، خلال فترة رئاسة الجنرال أيزنهاور، ضدّ العدوان البريطاني/الفرنسي/الإسرائيلي على مصر.
أمورٌ كثيرة تغيّرت في نظرة الشعوب العربية للسياسة الأميركية خلال حقبة الخمسين سنة الماضية، وتحديداً منذ اغتيال الرئيس كنيدي في العام 1963 وتولّي جونسون مهام الرئاسة الأميركية، حيث أصبح الدعم الأميركي المفتوح لإسرائيل هو الغالب على السياسة الأميركية في كل العهود التي توالت بعد ذلك، وحيث تفوّق عدائياً عهد جورج بوش الابن على كل ما سبقه، حينما احتلت أميركا العراق ومارست سياسة عدائية للعرب عموماً.
وما هو ملفتٌ للانتباه أنّ عقد الخمسينات من القرن الماضي قد شهد متغيّراتٍ دولية مهمّة عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، إضافةً إلى ما كانت تشهده المنطقة العربية وجوارها الإقليمي من تفاعلات كبيرة طالت فلسطين والمشرق العربي ومصر وتركيا وإيران، وبشكلٍ متزامن أيضاً مع صعود الدور الإسرائيلي في المنطقة وفي خدمة المصالح الغربية التي تمحورت آنذاك بكتلة معسكر "حلف الناتو" تحت قيادة أميركية، في مواجهة كتلة دولية أخرى برزت هي كتلة "حلف وارسو" بزعامة روسية.
وهاهو العالم الآن يشهد متغيراتٍ دولية وانتقالاً من عصر الإمبراطورية الأميركية التي قادت العالم في العقدين الماضيين إلى عصر التعدّدية القطبية، كما يشهد انتقال موسكو من موقع "العدو" لواشنطن (كما كان الأمر إبّان الحرب الباردة) إلى حال "الخصم" (كما في السنوات الأخيرة) ثمّ إلى موضع "الشريك" لواشنطن في حلّ الأزمات الدولية وفي بناء نظامٍ دولي جديد، لموسكو ولواشنطن فيه، دور الريادة المشتركة.
ونجد أيضاً مع هذه المتغيرات الدولية الجارية الآن، تطوراتٍ إقليمية هامّة تشمل إيران وتركيا ومستقبل إسرائيل في المنطقة، إضافةً إلى تحديد مصير وجود ودور دول عربية كبرى مثل مصر وسوريا والعراق.
الملاحظ أيضاً في حقبة التحوّلات الدولية والإقليمية الحاصلة أنّ المجمع عليه تقريباً في منطقة "الشرق الأوسط"، بما فيها من عرب وفرس وأتراك وإسرائيليين، هو الغضب المشترك على السياسة الأميركية وكأن واشنطن قد خسرت أصدقاءها ولم تكسب خصومها بعد. ففي مصر مثلاً هناك غضب على سياسة واشنطن من مختلف القوى المؤيدة والمعارضة للحكم الحالي بسبب تناقضات الموقف الأميركي تجاه جماعة "الأخوان المسلمين". وفي سوريا هناك خصومة مستمرة بين واشنطن والحكم السوري لكن يقابلها أيضاً امتعاض شديد لدى قوى المعارضة السورية من السياسة التي يتبعها الرئيس أوباما تجاه الأزمة الدموية السورية. وأمثلة أخرى عديدة نجدها الآن عن "عمومية الغضب" على السياسة الأميركية في الملفات الثلاثة: الإيرانية، السورية والفلسطينية، وهي التي اعتبرها الرئيس أوباما في خطابه الأخير أمام الأمم المتحدة بمثابة أجندة عمل لإدارته في هذه المرحلة.
ربّما سيكون حال السياسة الأميركية في "الشرق الأوسط" كما هو في "الشرق الآسيوي" حيث تحرص واشنطن على علاقات جيدة لها مع كلٍّ من الهند وباكستان رغم ما بينهما من أزمات وحروب، وكما هي أيضاً سياسة التوازنات التي تتبعها واشنطن مع كلٍّ من اليابان والصين. لكن من الواضح أنّ هناك مراجعة للسياسة الأميركية التي اتّبِعت في العقدين الماضيين، وخاصّةً في حقبة العقد الأول من هذا القرن، وبأنّ هناك موافقة الآن من صُنّاع القرار الأميركي على الأجندة التي حملها معه الرئيس أوباما في العام 2009 ولم يقدر على تنفيذها إلا في هذه المرحلة، وهي التي تنهي عهد "الانفرادية الأميركية" في قيادة العالم، وتريد استخدام "القوة الناعمة" والتسويات السياسية للأزمات الدولية بديلاً عن أسلوب الحروب والتورّط العسكري الأميركي في خدمة الأهداف الأميركية.
هذا التحوّل الحاصل في الأساليب الأميركية سبّب اعتراض بعض "أصدقاء" أميركا بالمنطقة، وجعل واشنطن من "المغضوب عليهم"، لكن هل العرب تحديداً هم على "الصراط المستقيم"؟!. الإجابة هي طبعاً بالنفي، فالعرب اليوم هم في أسوأ حال من الانقسامات والصراعات الداخلية، ومن افتقاد البوصلة السليمة لرشد حركتهم، ومن هيمنة الأفكار والممارسات الطائفية والمذهبية والإثنية. وهو حالٌ يجعل من الأوطان العربية أرضاً خصبة لكل مشاريع التفتيت التي تراهن عليها إسرائيل وأطراف أجنبية عدّة. فالعرب اليوم هم في ضلالٍ مبين مسؤولٌ عنه هذا الكمّ المتخلف ممّن هم في مواقع المسؤولية الفكرية والسياسية والدينية. وكما جرى استغلال التخلّف العربي في مطلع القرن العشرين لتحقيق هيمنة أوروبية على المنطقة من خلال شرذمة الأرض العربية، يتمّ الآن بناء متغيرات دولية وإقليمية من خلال توظيف الانقسامات الحاصلة لدى الشعوب العربية. والملامة هنا على العرب أنفسهم قبل أيِّ طرفٍ أجنبيٍّ آخر.
نعم العرب سياسياً وفكرياً في ضلال، إذ هل هو صراطٌ مستقيم ما يسير عليه المسلمون والعرب حينما تتحول التعددية الطائفية والمذهبية في أوطانهم إلى خلافات، وإلى صراعاتٍ دموية أحياناً؟!
أو هل هو صراطٌ سياسي مستقيم حينما يُناصر البعض إسرائيل في سياساتها ومشاريعها بالمنطقة، بينما يواصل المستوطنون الإسرائيليون تهويد مدينة القدس وغيرها من الأراضي الفلسطينية المحتلة؟!
أليس مؤسفاً أن تخرج تصريحات في أسبوع واحد من شخص عربي وآخر بريطاني، الأول هو الوليد بن طلال الذي نشرت له شبكة "بلومبيرغ" الاقتصادية مقابلة فيها كلام يحضّ على الصراعات الطائفية بالمنطقة وعلى دعم إسرائيل، بينما الآخر
قد يرى البعض أنَّ عنوان تحدّيات هذه المرحلة هو "مصلحة الطائفة أو المذهب" ومن أجلها تُحلّل كل المحرمات!. وقد يرى بعضٌ آخر أنّ الأولويّة يجب أن تتمحور حول مسألة الديمقراطية في مواجهة الاستبداد الداخلي. لكن أساس المشكلة في الواقع العربي الراهن هو تراجع مفهوم "الوطن" وتعثّر تطبيق حقّ "المواطنة". ولعلّ ما حدث ويحدث في البلدان التي شهدت مؤخّراً تغييراتٍ في أنظمتها، لأمثلة حيّة على مكمن المشكلة السائدة في المجتمعات العربية.
إنَّ ضعف الهويّة الوطنية لصالح هيمنة انتماءاتٍ ضيّقة يعني ضعفاً في البناء الدستوري والسياسي الداخلي، ويعني تسليماً من "المواطن" بأنَّ "الوطن" ليس لكلِّ المواطنين، وبأنّ "الوطن" هو ساحة صراع على مغانم فيه، لذلك يأخذ الانتماء إلى طائفة أو مذهب أو قبيلة بُعداً أكثر حصانةً وقوّة من الانتماء الوطني الواحد، كما يصبح الانتماء الفئوي عجلةً سياسية يتمّ استخدامها للوصول إلى مكاسب سياسية أو شخصية، أو لانتزاعها من أيدي آخرين حاكمين، وحيث تتحوّل أولويّة الانتماءات الضيّقة إلى مبرّرات تقتضي التعامل مع أي جهة خارجية من أجل مواجهة "الجماعات الأخرى" في الوطن الواحد!.
إنّ ضعف الهويّة الوطنية المشتركة هو تعبير أيضاً عن فهمٍ خاطئ للانتماءات الأخرى. فالاعتقاد بمذاهب دينية مختلفة، أو الاعتزاز بأصول إثنية أو قبلية، هو ظاهرة طبيعية وصحّية في مجتمعاتٍ تقوم على التعدّدية وعلى الاختلاف القائم في البشر والطبيعة. لكن تحوّل هذا الاختلاف إلى خلاف عنفي وصراعات سياسية دموية يعني تناقضاً وتصادماً مع الحكمة في الاختلاف والتعدّد، فيكون المعيار هو محاسبة الآخرين على ما وُلدوا به وعليه، وليس على أعمالهم وأفكارهم. وهذا بحدِّ ذاته مخالفٌ للشرائع الدينية والدنيوية كلّها.
هناك حاجةٌ الآن لبناء ولاء عربي جديد يجمع بين الفهم السليم للأمّة العربية الواحدة القائمة على خصوصيات متنوعة، وبين الولاء للوطن الواحد القائم على أسس سليمة في الحكم والمواطنة... وهناك حاجة للاهتداء ببوصلة عربية سليمة توقف حال الضياع والضلال قبل فوات الأوان.