كلمة في حق فن الشعر بمناسبة يومه العالمي
من المعلوم أن اليونيسكو اعتمد في دورته الثلاثين المنعقدة بباريس سنة 1999يوم الواحد والعشرين من شهر مارس يوما عالميا للشعر ، ومنذ ذلك التاريخ وبلدان العالم تحتفل بيوم الشعر كل بلد على طريقته ووفق ثقافته ومعتقده. وقد لا يذكر في بعض البلاد حتى مجرد الذكر أو ربما اقتصر الاحتفال به على مجرد سرد خبره في نشرات إخبارية ، وربما اقتصر الاحتفال على من لهم صلة مباشرة به .
ولقد كان من المفروض أن يجتمع شعراء المعمور في محفل عالمي تحت خيمة نابغية يتبارى الشعراء فيها أمام أعلام منهم ، وتقدم للمتفوقين جوائز على غرار جوائز الأوسكار التي تقدم لمشاهير فن السينما لأن الشعر هو الآخر فن من الفنون الجميلة يستحق ما يستحقه غيره من تكريم .
وإذا ما حدث أن غفلت بعض شعوب العالم عن الاحتفال بالشعر في يومه العالمي ، فليس من حق الشعوب العربية أن يمر بها هذا اليوم دون أن تحتفل به احتفالا يليق به، وهي التي كان أسلافها في الجاهلية يحتفلون بنبوغ الشعراء فيهم ، وينحرون لذلك ذبائح ، ويقيمون الولائم ،علما بأن الشعر كان علمهم الذي لم يكن لهم علم أصح منه كما قال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وهو ما يوجب الفخر به .
ولقد حظي الشعر بالذكر في كتاب الله عز وجل ، فسميّت سورة من سوره باسم الشعراء ، ومدح الله تعالى منهم أهل الهداية ، وذم أهل الغواية لأنه أراد أن تكون للشعر سمعة ومكانة .
وجدير بالبلاد العربية أن تعيد من جديد تقليد سوق عكاظ ، فتضرب الخيمة الذبيانية ، وتدعو إليها الشعراء للتباري بأجود ما تجود به القرائح ، وتكتب أجود القصائد بماء الذهب ، وترصد للنوابغ من الشعراء جوائز لا تكون مالية لأن المال يفنى بل تكون جوائز لها قيمة لا تبلى ومفخرة لا تنسى.
وكان الأجدر أيضا أن يدعو أهل السلطان الشعراء كما كان يفعل عظماء العرب في الماضي ، ويكون إقبال الشعراء عليهم ليس للتكسب أو الاستجداء بل من أجل رفعة شأن الشعر الذي هو كنز لغة الضاد الذي لا يضاهى .
هذا ما يجب أن يتمناه كل عربي محب أو عاشق للشعر في يومه العالمي إلا أن واقع الشعر في البلاد العربية يدعو إلى الأسف وقد شحت القرائح في هذا الزمان ، واستعجم معظم العرب حتى تجرأ أحدهم على القول أنه من الخرافة القول اكتساب واتقان لغة الضاد سليقة قبل الإسلام ، وهو معذور فيما زعم لعجمة لسانه ، وقد أعماه التعصب له ، وذلك دأبه هو ومن على شاكلته ممن ينالون من لغة الضاد لأنها لسان البيان القرآني الذي كل من ينهل من معينه ، ويهتدي بهديه يسمو به، وهو عاشق مفتون بلسانه المبين .
ولاشك أن الذي يستكثر على العرب في جاهليتهم وقبل الإسلام تحدثهم بلسانهم سليقة لأنه لسان إعراب إنما ركب غروره ، وقاس علمهم به على مبلغ علمه به علما بأن أهل العلم عبر التاريخ شهدوا بأنه أرقى لسان عرفته البشرية ، وأكد ذلك اخيار رب العزة جل جلاله له ليكون اللسان الناقل لرسالته الخاتمة للعالمين ،والتي فيها مفتاح سعادتهم في عاجلها وآجلها ، ولا مندوحة لمن رام هذه السعادة من التماسها عبر لغة الضاد .
ومعلوم أن المستشرقين ومن لقطوا فتات فكرهم من المستغربين قد أنكروا الشعر العربي في جاهلية العرب ، وزعموا أنه منحول، وها هم اليوم أمثالهم ممن أعماهم التعصب لسانهم الأعجمي الذي هو عالة على اللسان العربي المبين يكررون مقولتهم المتهافتة في زمن استعجام كثير من العرب ، وهم يزعمون أن من يتكلم لغة الضاد لا محالة يزل لسانه بسبب حركاتها الإعرابية في أواخر كلماتها ، وهي عندهم كالطلاسم ، وعليه كل من جهل اتقان لغة الضاد أو عجز عن ذلك ، برر جهله أوعجزه بعسر حركاتها الإعرابية ، وجزم أنه من الخرافة أن تكون قد نطقت سليقة وسجية عند متكلميها الأصليين ، وقد تغنوا بها في أشعارهم التي لا زالت شاهدة على ما بلغوه من إتقانها إتقانا مبهرا منقطع النظير ، وكل من اقتفى أثرهم إنما ينهل من منهلهم ، ولا يحق له أن يدعي في ذلك قصب سبق ،بل هو عالة عليهم .
ومن عجز المتأخرين عن فري القدماء في قرض الشعر أنهم استثقلوا الشعر القديم واعتبروه مما عفا عنه الزمن ، وانصرفوا عنه بعدما أعجزتهم مجاراته ب ، وما ينبغي لهم ذلك وما يستطيعون إلى ما زعموا أنه شعر، وما هو بشعر ، إن هم إلا يظنون ، وقد خلطوا بينهم وبين الكلام المنثور كما يخلط العذب الفرات بالملح الأجاج ،وأصبح الشعر بالنسبة إليهم حكرا عليهم دون غيرهم، ونصبوا أنفسهم أوصياء عليه ، وجعلوا الاشتغال به ضربا من الكهنوت واعتبروا أنفسهم كهانه،ويستثنى منهم بطبيعة الحال فضلاء منهم ممن يرعون لغيرهم أقدراهم ومكانتهم الشعرية ، ولا يبخسونهم شاعريتهم .
ورحم الله تعالى الشاعر السوداني الكبيرعبد الله الطيب المجذوب الذي قال كلمة عن الشعر والشعراء في حضرة الملك الراحل الحسن الثاني خلال درس من الدروس الرمضانية مفادها أن من يجالس الملوك والأمراء، ولا يقول شعرا فما هو بعربي ، فابتسم لقوله العاهل المغفور له وهو ينصت إلى قصيدة ألقاها بين يديه يمدحه مشيدا فيها بمكرماته .
ولما كان الحديث عن الشعر يطول ويتشعب ، وهو الذي شغل الناس منذ كانوا ، فإنه لا أحد يستطيع الزعم أنه يوفيه حقه إذا ما تحدث عنه في يومه العالمي، علما بأنه أفصح وأبلغ ناطق ومعبر عن نفسه ،وهو الجميل الذي يبهر حسنه وبهاؤه ، ولن يعرف قدره إلا من رق ذوقه ، ومن لا يتذوقه فهو سقيم الذوق ، ومن يجهله، فهو فظيع الجهل .
وإذا كان الناس يموتون وينسى ذكرهم، فإن الشعراء مخلّدون، وحسبهم ذلك شرفا ، وحسبهم أن الله تعالى ذكرهم في كتابه العزيز ، وحثهم على الهداية ، ونفرهم من الغواية قائلا وهو أصدق القائلين : (( والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون إلا الذي آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا )) ، وليس من الشعر في شيء ما لا يتغنى فيه بإيمان بالله تعالى ، ولا يتجمل بذكره جل في علاه ، ولا يدعو إلى صالح الأعمال ، ولا ينتصر للمظلومين ، ((وسيعلم اللذين ظلموا أي منقلب ينقلبون )).
وسوم: العدد 1024