شهر رمضان: من مآزق العيش إلى بورصة التأجيج

في لبنان، حيث مآزق العيش اليومي وأزمات الوجود البسيط المستعصية، من ندرة حليب الأطفال إلى التلاعب بأدوية الضرورات الماسة، فانقطاع الماء والكهرباء والوقود؛ لا يُستثنى شهر رمضان من انتهاك سلطات النهب والفساد والتسلط والمحاصصة الطائفية، فيتحوّل الشهر الفضيل إلى مادة إلهاء عن الجوهري، وإشعال لمعارك طائفية ومذهبية.

وهكذا اجتمع رئيس مجلس النواب نبيه البري، مع رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، وتوافقا على تأخير العمل بالتوقيت الصيفي المعتاد، على سبيل التخفيف من أعباء الصائمين كما قيل؛ الأمر الذي سارع بعض أقطاب نهب البلد وإقعاده وتخريبه وتجويعه وتفليسه، ولكن من الجانب الأخر للتقاسم الطائفي، إلى رفع العقيرة احتجاجاً على تدبير «مسلم» يُلحق الضرر بمصالح مواطن «مسيحي»!.

وإلى جانب أقصى الحماقة، عن سابق قصد وتصميم، في قرار لا يمتّ بصلة إلى شروق الشمس ومغيبها (وهو معيار توقيتات الإمساك والإفطار)، فإنّ التسجيل المسرّب للقاء «رأس» السلطة التشريعية بنظيره في السلطة التنفيذية لا يبدو صنيعة الصدفة أو إهمال هذا الهاتف المحمول المسجِّل أو ذاك؛ بقدر ما يثبت السيناريو بأسره، من التسريب إلى الاستنكار، أنّ «بنك» استغفال العقول لدى أمثال برّي وميقاتي، ثمّ جبران باسيل على الضفة الموازية، لا حدود له من جهة أولى، كما أنه في الآن ذاته مصاب بإفلاس فاضح في الطرائق والتقنيات.

طراز آخر من بورصة استغلال شهر الصيام للإيحاء بما قد يبدو في الظاهر نزاعاً مذهبياً بين السنّة والشيعة، ولكنه في العمق أو تحت قشرة السطح مباشرة ليس أكثر من وجهة أخرى مماثلة لإجراء برّي/ ميقاتي؛ هو حكاية الإعلان عن عرض مسلسل «معاوية»، ثمّ تراجع الشركة المنتجة عن بثّه بسبب الجدل حول ما قد يثيره من «نعرات طائفية». وإذْ تبارى ساسة ورجال دين، أو ذلك الطراز المشترك في صفوفهم كما يعكسه الزعيم العراقي الشيعي مقتدى الصدر مثلاً، في إطلاق التصريحات المحذّرة من عواقب عرض المسلسل؛ بادرت قناة «الشعائر» العراقية ذات التوجّه الشيعي إلى اتخاذ ردّ عملي صدامي، فأعلنت إنتاج شريط سينمائي يمتدح شخصية أبي لؤلؤة المجوسي، قاتل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب.

وحتى الساعة، أو إلى أن يثبت العكس عند إشعار آخر، انتهج الفريقان جانب التهدئة (ما دام المرء في قلب خطابات الحرب والاقتتال!)، وكأنّ عشرات المؤلفات، أو المئات منها، لم تفصّل القول في شخصيتَي معاوية أو أبي لؤلؤة، ثمّ الإمام عليّ ومعركة صفين في الخلفية الأعرض والأهمّ والأخطر، أو موقعة الجمل قبلها؛ سواء لجهة التشديد على الرواية السنّية، أو نقضها في قليل أو كثير لصالح إعلاء الرواية الشيعية.

طراز ثالث من استغلال شهر رمضان تولاه رئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي، الذي تناسى أزمات معيش المصريين وحال العملة الوطنية واستجداء صندوق النقد الدولي والتسوّل لدى هذه وتلك من دول الخليج الداعمة لنظامه؛ واختار أن يفتتح مسجداً في أرجاء ما يسمّيه «العاصمة الإدارية الجديدة»، بكلفة تجاوزت 800 مليون جنيه، رغم أنّ المنطقة ذاتها تضمّ مسجداً ثانياً يُعدّ أحد أكبر مساجد العالم. ولم يكن خافياً عن المصريين مغزى الترويج السياسي خلف اختيار شهر الصيام لافتتاح المسجد الثاني، ثمّ دلالة أن تتولى البناء شركة مقاولة تشرف عليها الهيئة الهندسية للقوات المسلحة.

وكان البعض يبدي الأسف لأنّ شهر العبادة والتضامن والتسامي الروحي والجسدي انقلب إلى موسم للإفراط في الأطعمة والإدمان على المسلسلات؛ وجاءت اليوم أحقاب من انتهاك الشهر الفضيل، على أصعدة شتى من الاستغلال والإلهاء والإفساد. وليست هذه التحولات غريبة عن أساليب اشتغال الغالبية الساحقة من الأنظمة العربية، حيث تستعين طرائقُ الاستبداد والفساد بكلّ ما يمكن أن يخدّر العقل ويستلب الروح.

وسوم: العدد 1025