الشعب السوري وسياسة التطبيع مع النظام الأسدي
في الوقت الذي تفتح بعض الدول العربية مقراتها الديبلوماسية في دمشق، تقوم طائرات النظام السوري في قصف المناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة، وعمليات القصف المتكررة توقع العديد من الضحايا المدنيين الذين هربوا من قصف طالهم في بلداتهم قبل تهجيرهم ليعيشوا في مخيمات النزوح المزرية جدا. فبشار الأسد أعلن الحرب على الشعب السوري منذ اليوم الأول لانطلاقة الثورة السورية، والعديد من الدول العربية والأجنبية قطعت علاقاتها مع نظام يقتل شعبه، فما الذي تغير اليوم، النظام مازال مستمرا، بدعم من القوات الروسية، والميليشيات الإيرانية، وحزب الله، في حربه ضد الشعب السوري بكل الأسلحة المتوفرة لديه، ولديهم، ومن يعيشون في مناطق سيطرته يعانون من حرب أخرى صامتة هي حرب القمع والجوع.
فهل اعتبر المطبعون أن النظام السوري قد بدل من سلوكه تجاه السوريين حتى بدلوا مواقفهم السابقة التي كانت إلى جانب المعارضة؟ أم أن هذه المواقف جاءت حينها بقناعة أن المعارضة السورية المسلحة (المدعومة بالمال والسلاح من قبل هذه الدول نفسها التي تطبع معه اليوم) ستسقط النظام وبالتالي ستكون لها حظوة أو مصالح مع النظام الجديد بعد السقوط؟
على أي حال لم ير الشعب السوري من المطبعين الأوائل أي خطوة تجاهه سوى بعض الوعود بمساعدات إنسانية وكأن المشكلة السورية برمتها تكمن في حفنة مساعدة (لشعب متسول)، بل يأسف لدعم نظام ما زال مستمرا في قتله. والكل يعلم أن معظم السوريين مستمرون في معارضتهم لنظام الأسد، فلا يمكن الوصول إلى الهدف المنشود في بناء دولة ديمقراطية، مؤسساتية مع نظام أجرم بحقهم.
فماذا لو اندلعت الثورة من جديد، هل ستنقلب مواقف المطبعين، أم سيقفون إلى جانب النظام في قتله للسوريين؟ ويعلم القاصي والداني، أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يسعى بكل ما ملك من وسائل لتعويم النظام السوري، وإعادة تأهيل بشار الأسد، وزيارات وزير الخارجية سيرغي لافروف للعديد من الدول العربية كانت تهدف لذلك، وكذلك الضغط على اردوغان للقاء الأسد. ولبوتين في ذلك مآرب عدة.
آل الأسد والتحالف مع روسيا
منذ الساعات الأولى لغزو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أوكرانيا أبدى رئيس النظام السوري بشار الأسد تأييده للغزو الروسي، ووصفها بـ “العدو الواحد” وقال “ما يحصل اليوم هو تصحيح للتاريخ وإعادة للتوازن إلى العالم الذي فقده بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، واعتبر أن “روسيا اليوم لا تدافع عن نفسها فقط، وإنما عن العالم وعن مبادئ العدل والإنسانية والعدو الذي يجابهه الجيشان السوري والروسي واحد، ففي سوريا هو تطرف، وفي أوكرانيا هو نازية تدعمها الغرب” وكان الأسد (في وقت سابق اعترف باستقلال جمهوريتي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، اللتين انفصلتا عن جورجيا عقب غزو عسكري روسي عام 2008)، كما قال الأسد إن الوجود العسكري الروسي في بلاده لا يتعين أن يكون مؤقتا فالأسد مازال غير مطمئن ويريد من بوتين الاستمرار في دعمه رغم انشغاله بحرب أوكرانيا، ومن الملفت أنه خلال زيارته الأخيرة لموسكو اصطحب معه نجله حافظ، وكأنه يوصل رسالة أن الوريث موجود والنظام مستمر، وقال بعد لقائه بوتين إن هناك ضرورة لإعادة التوازن إلى العالم اليوم وإلا فإنه سيتجه إلى الانفجار والدمار. وعاد الأسد ليؤكد على مواقفه في تجاه التواجد الروسي في سوريا قائلا:” إن دمشق سترحب بأي مقترحات من روسيا لإقامة قواعد عسكرية جديدة أو زيادة عدد أفراد قواتها في سوريا”. وهذا الكلام يعيدنا إلى أسبابه. فآل الأسد ورثوا العلاقة مع الاتحاد السوفييتي السابق عن الرئيس جمال عبد الناصر الذي اتجه نحو الاتحاد السوفييتي لتمويل مشروع السد العالي بعد أن رفضت أمريكا تمويله، وتوطدت العلاقات أكثر بعد حرب السويس، وعقد صفقات أسلحة تشيكية وسوفييتية، ثم حرب 67 التي فتحت الباب واسعا أمام موسكو لدخول سوريا من الباب الواسع، وتحقيق حلمها القيصري القديم في الوصول إلى المياه الدافئة، ففي العام 1971 وافق حافظ الأسد على بناء قاعدة بحرية سوفييتية في مدينة طرطوس، وهي القاعدة الوحيدة لروسيا على البحر المتوسط.
مع اندلاع الثورة السورية ورغم كل محاولات الأسد إخمادها عسكريا، واستخدام كل أنواع الأسلحة حتى الكيميائي منها، إلا أنه وجد نفسه مضطرا لطلب المساعدة الخارجية التي بدأها في إيران التي أوعزت لحزب الله في لبنان لضرب الشعب السوري المنتفض، ثم جلبت كل الميليشيات الطائفية من أفغانستان، وباكستان، والعراق، والحرس الثوري لتقوم بنفس المهمة: قتل السوريين. وجلب التدخل الإيراني الذي يترسخ في سوريا، تدخل إسرائيل التي أصبح شغلها الشاغل بضرب أماكن تواجد قواعد هذه الميليشيات، والمطارات والموانئ التي تستقبل المعدات والذخائر الإيرانية. ولم يفلح النظام وكل الميليشيات المرتزقة، ووصم الثورة بالإرهاب باختلاق داعش وأخواتها التي جلبت بدورها القوات الأمريكية لإقامة تحالف مع قوات سوريا الديمقراطية الكردية (التي تسيطر على الجزء الشمال الشرقي من سوريا) للقضاء على داعش التي احتلت أجزاء واسعة من العراق وسوريا، ورغم كل المجازر المروعة التي ارتكبها النظام وميليشياته لم يتمكن النظام وحلفاؤه بإخماد الثورة والانتصار على الفصائل المسلحة، وبات النظام السوري في العام 2013 قيد السقوط. وكل الدول المطبعة كانت تنتظر هذه اللحظة إما بقلق، أو بترتيب مواقفها على ضوء الوضع المستجد. ولم يتبق لبشار الأسد سوى التوجه لموسكو، الحليف القديم، لإنقاذ النظام.
قاعدة عسكرية في حميميم
وهنا أيضا استغل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الفرصة ليثبت أقدامه في سوريا بفرض شروطه: إقامة قاعدة عسكرية في حميميم مع مطار لاستقبال الطائرات الحربية الروسية لتكون نقطة ارتكاز في حال نشوب أي نزاع من الغرب، وخاصة الآن بعد غزو أوكرانيا. توسيع قاعدة طرطوس البحرية (في العام 2017 وافق وريث الحكم بشار الأسد على توسيع القاعدة وتأجيرها لمدة 49 سنة)، إطلاق يد الدبلوماسية الروسية للالتفاف على قرارات جنيف ولاسيما القرار 2254 القاضي بالتفاوض بين النظام والمعارضة لوضع دستور جديد للبلاد، وإجراء انتخابات نزيهة وحرة. واستبدالها بمحادثات آستانة وسوتشي بين روسيا وإيران وتركيا، ولا مكان للمعارضة، أو للنظام فيها. وشرط آخر وهو عدم تعرض أي جهة سورية رسمية للقوات الروسية. بصم بشار الأسد بالعشرة على الشروط، وبدأت آلة الحرب الروسية بانتهاج سياسة الأرض المحروقة في سوريا فدمرت مئات البنى التحتية من مشاف، ومدارس، ومحطات كهرباء، وأسواق ومخابز.. وقتلت 21106 أشخاص من مدنيين بينهم مئات الأطفال والعسكريين ما بين 2015 و2022 وذلك حسب أكثر من منظمة حقوقية وإنسانية. هذا هو الوضع اليوم، فهل التطبيع العربي سينجح في إبعاد إيران كما يخطط البعض؟ أو الضغط على الأسد لإخراج القوات الروسية أو الأمريكية؟ وهل سيضمن حلا سياسيا مرضيا للشعب السوري؟ مع أن طلبه واضح: لا يمكن التعامل مع هذا النظام الذي أجرم بحقه، ويتطلع لبناء دولة ديمقراطية مؤسساتية تضمن الحريات والمساواة بين جميع مكونات الشعب السوري. وهذا ربما هو المرفوض من النظام ومن يدعمه.
وسوم: العدد 1026