غسّان كنفاني والانفلات من التدجين
(8/4/1936- 8/7/1972)
[قد حاولوا أن يذوّبوني كقطعة سكر في فنجان شاي ساخن، وبذلوا- يشهد الله- جهدا عجيبا من أجل ذلك، ولكنني ما زلت موجودا رغم كل شيء. أرض البرتقال الحزين، قصة "أبعد من الحدود"، ص14]
الثقافة غير المؤطّرة، أي ما يتلقّاه الفرد على عاتقه الشخصي خارج أسوار المدرسة والجامعة والجامع، هي الثقافة التي تصحح أخطاء كل ألوان الثقافة التي يتلقاها الفرد في ظل هذه الأطر الثلاثة المبثوثة صورها فيما تناولته سابقاً، لأن تلك الأطر يحكمها نظام من التفكير والانضباط، يسعى إلى السيطرة على العقول، ومن ثَمّ إلى توجيه السلوك الفردي والجماعي لمصلحة تلك المؤسسات، ما يُنتج بلا شك ثقافة تساعد على إنتاج قطيع خاضع.
تحارب هذه المؤسسات كل فكر متنور وتجديدي وثوري، فمثلا؛ لم يعترف النظام التعليمي الرسمي إلى الآن بقصيدة النثر، ولا بالأشكال الفنية الجديدة في القصة القصيرة، والمسرح والرواية والنص المفتوح، وإلى حد بعيد تابعت الجامعات التنكر لكثير من الأشكال الثورية للأدب الحديث. وأما الجامع بوصفه مؤسسة دينية تابعة للدولة فأمره مختلف قليلا، ولكنّه داعم لفكرة تدجين الفرد وإخضاعه للنظام العام، فالإمام الموظف تابع للدولة بمعنى أنه خاضع لها، ويعمل على تسويق خطابها المغلف بالنص الديني وبالتراث، فإن لم يتدخل مباشرة في السياسة ويصدّر وجهة نظر الدولة، فإنه يوجه خطابه في أمور فرديّة من أحكام الطهارة والوضوء والحيض والنفاس، أو الحديث عن جهنم وعذابها وعذاب القبر، ونادرا ما تجد في الخطاب الديني للمؤسسة الدينية الرسمية خطابا دينيا تبشيريا؛ بمعنى التركيز على جانب العدل والصورة الرحيمة للرب الذي تدعو له الدولة، لأن الدولة تتقصد من وراء ذلك تربية الخوف في نفوس الأفراد، لتميت عليهم الحياة والدين وتهوّن في نفوسهم الثورة وأهميتها. كما تسيطر النزعتان الماضوية والقدرية على فكر الدولة الديني، فمرجعيتها تراثية، ومثالها الأعلى هم السلف الصالح الذين ذهبوا ولم يتكرر أمثالهم، فتجعل أفرادها يعيشون ضمن دائرة من النوستالجيا القاتلة.
إن من يحالفه الحظ من الأفراد هو من يخرج عن سيطرة هذه الأطر الثلاثة، ويشكل لنفسه منهجا تفكيريا وفلسفيا خاصا به، نابعا من تأملاته وقراءاته، ليبدأ بطرح أسئلته على نفسه، ويبحث عن إجابتها بنفسه. ليشعر على الأقل أنه ليس خاضعا بفكره، ولا بطريقة تفكيره إلى ذلك النظام الحاكم الصادر عن تلك المؤسسات الناظمة للمجتمع، فيكون أكثر حرية وأكثر استجابة للثورة أو لإشعالها.
لقد حاولت الأحزاب، وخاصة التقدميّة منها، فعل ذلك وفشلت فشلا ذريعا بعد أن أصبحت تلك الأحزاب جزءا من مؤسسات الدولة، أو تسلم أعضاء منها إدارة بعض مؤسسات الدولة، فأخذت تطبق أفكار النظام وقناعاته وتخلت عن ثوريتها وتقدميّتها، وصارت حارسة للتدجين وتدعو أتباعها إليه، لقد مثلت تلك الأحزاب بفعلها هذا انتكاسة في الوعي العام للأفراد والمجتمع، وصارت وبالا عليه، وليست عونا له وخلاصا وملاذا للخروج مما يعانيه من سجن داخل منظومة التدجين والخضوع.
من هذا المنطلق العام يجري تعديل نصوص الكتّاب المتمردين في أفكارهم وكتاباتهم إذا وضعت في كتب المناهج الدراسية "مقررات التعليم"، لأنها تريد إخضاع النص إلى عقلية النظام التربوي الذي هو عصب تشكل النظام العام (السياسي) في السيطرة على الفرد والجماعة، من أجل السيطرة على التلاميذ المتلقين لهذه المقررات، فالمناهج الدراسية بشكل عام تقوم بتعزيز سيطرة الدولة على المجتمع؛ فلا يوجد دولة في العالم، مهما كانت حرة وديمقراطية أو ثورية تحررية، تعلم الطلاب الثورة والحرية الحقيقية أو التفكير الحر، وإن وجدت بعض تلك المفاهيم في الأفكار التي تبثها قطاعات التربية المختلفة عبر أجهزتها الفرعية، إلا إنها موجهة لغرض ما، ومحددة النتائج، بل إنها منزوعة الفتيل، فلا بد من كل خطوة من نظرية ومن نظام ما يسير عليه المعلمون والطلاب، ويتم إخضاعهم لآلية تفكير محددة ضمن تلك الاستراتيجيات المدروسة جيدا، حتى لا يخرج أحد عما تقرره الدولة، دينية أو ليبرالية أو ديكتاتورية، فالتفكير الناقد والتفكير الحر والمبدع محكوم بإطار الدولة، بل تسعى إلى قصّ أجنحة المحلقين من الطلبة والمعلمين، وتحصرهم في قفص ضيّق لمحاصرتهم، ليكفّوا عن الطلاب شرّ هذا التفكير كما تراه الدولة.
من أجل كل ذلك، فإنه من النادر وضع نص في أي مقرر تعليمي دون أن يتم إجراء تعديلات عليه، بتغيير جمل وكلمات، أو حذف عبارات وإضافة أخرى، وذلك لأن تلك النصوص في أغلبها مصوغة في دوائر الثقافة غير المؤطّرة، وغالبا ما نجد في الكتب المدرسية هذه العبارة "بتصرف". إنها عبارة مثيرة للقلق حقاً. وإن لم يجر مثلا تعديل النصوص كالنصوص الدينية، فإن مبدأ التصرف يتوجه إلى الاختيار المبرمج، أو توجيه النص وجهة مناسبة للنظام عن طريق طرح أسئلة محددة، يحفظ الطلاب إجابتها غيبا. وإلى هنا ينتهي مفعول النص الديني المختار، فلا تسمح بجعله مادة مثيرة للتفكير، لأن في إثارة التفكير زعزعة ليقينية النظام المسيطرة على العقول.
إن هذا الذي قلته فيما سبق يفتح الباب لدراسة النصوص دراسة مقارنة بين النص في حالته الأصلية وحالته التي وظف فيها في الكتب المدرسية المقررة، هذا ما قام به الباحث التربوي الشاعر وسيم الكردي في كتابه "رجال في الشمس- حضور النص... وغيابه". يناقش الكتاب عمليات التصرف التي حدثت على النص المأخوذ من رواية "رجال في الشمس" لغسّان كنفاني، وصار نصا للقراءة في كتاب "لغتنا الجميلة" للصف السابع الأساسي- الجزء الأول. إن ما توصل إليه الكردي في هذه المقاربة مهم ويجب التركيز عليه، إذ يرى "أن أي تغيير في نص، مهما كانت طبيعة هذا التغيير، يشكل تعبيرا ثقافيا (جماليا ومعرفيا)، وهو يعكس رؤية لما يقدمه النص، والكيفية التي يقدم فيها" (ص 14).
لقد تعرضت رواية "رجال في الشمس" إلى ما يشبه عملية تغيير في هوية النص، فبدلا من أن يدرس على أنه جزء من رواية ويظل يتعامل معه روائيا عند التحليل حتى من خلال النص المقتطع، فإنه بدا وكأنه "محاولة لإنتاج نص قصة قصيرة من رواية". (ص 27) وفي المحصلة، فإن النص كما يقرر الكردي ليس نصا لغسّان كنفاني، إذ إنه ليس هو نفسه لما دخله من تغييرات أودت به وبملامحه وبمقولاته الإبداعية، ليقدم "للقارئ نصا ملتبسا". (ص 24)
عموما تحمل عبارة "النص الملتبس" الكثير من المشاكل التي تؤثر في وعي الطلاب، فتجعلهم يتعاملون مع نص مهجّن عن الأصل، تختلف رؤاه عن رؤى النص الأصلي، وبالتالي فإن عملية التفكير في النص عملية مشوشة، ولا تخدم بناء أنماط التفكير لدى الطالب، فيصبح التعليم المدرسي المنهجيّ مضرة؛ لأنه أنتج طالبا مشوشا ومشلول التفكير.
الأمر لا يقف عند كتاب الصف السابع الأساسي، بل وجد أيضا في قصة "البومة في غرفة صغيرة"[1] المدرجة ضمن دروس كتاب "اللغة العربية -1" (المطالعة والقواعد والعروض والتعبير- المسار الأكاديمي)[2] للصف الثاني عشر، ويدرس هذا النص لفروع هذا الصف كافة عدا الفروع المهنية، وقد خلا الكتاب الخاص بالمسار المهني من هذا النص.
لقد حاول المؤلفون أولا إعطاء تفسير للبومة في المقدمة التي سبقت القصة في قولهم "جاءت القصّة كأنّها ترجمة لما ترتبط به البومة في المأثور الشعبيّ من شؤم وخراب". (اللغة العربية، ص 91)، على الرغم من أن البومة في النص لا تؤدي هذا الغرض. وتم تغييب دلالتها النصية والثقافية المغايرة للثقافة الشعبية عندما تم حذف فقرة كاملة من القصة، توضح دلالة البومة الحقيقية في القصة: "كانت عيناها ما تزالان تتحركان في رأسها المفلطح بتحذير إنساني عميق، وعلى إيماضة قنبلة بعيدة، شاهدت في عينيها ذلك التحدي الباسل، الخائف بعض الشيء، ولكن الصامد لضغط لحظة اختيار واحدة بين الفرار والموت"[3].
وقد أشار الدكتور أفنان القاسم إلى رمز البومة وما تعنيه من دلالات رمزية في بحثه الموسوم بـ "الحداثة الزرقاء- دراسة في أدب غسّان كنفاني"، فكتب أن: "الصورة الفنية للبومة في الليل تعبر جماليا عن الشعور بالذكرى المفجعة في ليل المنفى". في حين تحدثت تغريد عبد العال عن صورة البومة بقولها: "يتحدث غسّان عن الخوف كقيمة إنسانية. فالبومة التي يراها كصورة في إحدى المجلات تذكره ببومة رآها في أيام الطفولة في قريته في فلسطين، فعندما كان طفلًا، طلب منه الشيخ أن يخبئ البنادق تحت شجرة التين، عندما احتل اليهود القرية، وهناك شعر بالخوف الشديد ولكنه قرر أن يتابع السير وعندما وصل إلى الشجرة، رأى تلك البومة الشجاعة والخائفة واقفة فوق الشجرة بالرغم من القصف. إنه جمال الخوف في ساعة القصف والحرب، فتلك المعالم لا تغيب عن عوالم غسّان المشحونة بالرقة والهشاشة. البومة التي تشبه القلب، يقول غسّان والقلب الذي ينبض ويخاف ويتردد ويشعر، هو قلب قضيته كمناضل وإنسان" (كتاب الهدف 3، ملفات، ص 28) .
وليس هذا وحسب، بل تم حذف فقرات كثيرة، وتم تعديل بعض الجمل والأساليب النحوية، لتكون مناسبة للنحو المدرسي أو الأساليب التي يظن مقرر التعديلات أنها الأصوب والأعلى شأنا من ناحية تركيبية، علما أن ما تعرضت له القصة من تغيرات في البنية اللغوية المعتمدة بعد حذف مجموعة من الفقرات لم يكن بذلك المقدار الذي تعرض له النص المنتج المستلّ من رواية "رجال في الشمس"، وعلى الرغم من ذلك فإن تلك التصرفات الأسلوبية أفقدت القصة كثيرا أو قليلا من رؤاها الإبداعية والفكرية، "فما يتغير في الأسلوب سيفضي إلى تغير في الدلالة، وما يتغير في الشكل سيؤدي إلى تغير في المعنى". (الكردي، ص 23). فتغيير الجملة من إنشائيّة إلى خبرية أو العكس، أو إخضاعها لتغيير مواقع المسند والمسند إليه والفضْلات التركيبية؛ تقديماً وتأخيرا أو تعديلا، أو حذفاً، حتماً سيؤدي إلى تغيير في المعنى، فأي تغيير في المبنى- كما قال النحاة- سيؤدي إلى تغيير في المعنى.
على أية حال كانت تلك إشارات فقط لوجود تغييرات في القصة بين الأصل والشكل الذي تم اعتماده، وهذا ما ينطبق على نصوص كثيرة تم التلاعب فيها اتساقا مع منظومة تربوية تسعى في المجمل إلى الاتساق مع الهدف من وجود المدرسة والمقرر التعليمي الذي يحرص على أن يظل الطلاب خاضعين للنظام. عدا أنه وفي أحيان أخرى يكون هذا التعديل أو التصرف اعتباطيا لا معنى له، بل يشوش فكرة النص وتحليله ويربك عملية التلقي والشرح كليهما، كما حدث مثلا في قصيدة "ت. س. إليوت" الأرض اليباب عندما اعتمد منها مقاطع مبتورة في مقرر الصف الحادي عشر للغة العربية، وما حدث أيضا في حذف بعض أبيات قصيدة رام الله للشاعر المصري أحمد بخيت، ما أدى إلى إرباك في فهم النص، إذ فقدت الأبيات الترابط، وتعقّد المعنى بسبب هذا الحذف غير المدروس جيدا، ناهيك عن التوجهات التي تحرف النصوص جميعها، نصوص غسّان كنفاني وغيره وتسحبها إلى مناطق أخرى من خلال مجموعة من الأسئلة الموجهة للطلاب في نهاية النصوص، وتفتقر في غالب الأحيان إلى التفكير الناقد والحر.
لقد تم تشويه عملَيْ غسّان كنفاني في المقررات الدراسية الفلسطينية على نحو لا يقدمان الصورة الحقيقية لغسّان كنفاني بوصفه كاتبا ثوريا متمردا غير خاضع، ولذلك عندما سيفلت الطلاب من أسر المدرسة لينطلق بعضهم ويتابع قراءاته وتأملاته وحده، فـ "القراءة الحرة تصلح ما أفسدته المدرسة"، كما تقول الكاتبة بثينة العيسى، وعندئذٍ سيُكتشف غسّان كنفاني الحقيقي، كونه ذلك المثقف المشتبك الذي لم يكن في يوم من الأيام خاضعا لأي نظام، ولم تكن مؤلفاته على تعددها الفكري والإبداعي ذات توجهات تدجينية، بل كانت على العكس من ذلك رؤيوية ثورية، وذات آفاق معرفية تتجاوز الحاضر إلى سؤال المستقبل المفتوح الكثير من الإجابات والاحتمالات.
هذا هو غسّان الحقيقي الذي لم يظهر في المقرر المدرسي، وستعمل أفواج من خريجي المدارس الرافضين للتدجين على استعادة وجه غسّان واستلهام روحه الثورية عبر الاشتباك مع كتبه وأفكاره مباشرة خارج الأسوار المادية والعقلية التي تحد من التفكير بل تقتله، وتقتل أيضا أمل الناس في التغيير، لذلك فإني أرى أن المدرسة والجامع، بالكيفية التي وضحتها آنفا، وإلى حد ما الجامعة هي أدوات لإطالة عمر الأنظمة القمعية، وبالتالي الاستمرار في احتلال فلسطين، إضافة إلى أنها أدوات إخضاع للفرد لجعله مستبعدا في سلوكياته وتفكيره ورؤاه، فلا مؤسسة تحارب التفكير الحر كما تحاربه المدرسة والمسجد والجامعة، فهي تعامل مرتاديها بالتلقين وإعطاء الأوامر، وما على المواطن إلا أن يكون أداة تنفيذ طوعية أو بالإكراه لأفكار تلك المؤسسات.
هذه الرؤيا تنسجم مع موقف غسان كنفاني من الأشياء الجاهزة أو تلك التي تؤدي في الإنسان إلى خسارة ذاته عن طريق تضعضع موقفه. يقول غسان في ذلك: "حياتِي جَميعها كانَت سلسلةُ من الرّفض ولذلك استطعْتُ أن أعيش، لقد رَفضت المدرَسة، ورفَضْت الثروة وَرفضْت الخضُوع ورفضت القبول بالأشْياء". وعليه؛ فإنّ أعمال غسان كنفاني الإبداعية والبحثية انطلقت من فكرة أساسية تقوم على محورين: الأول، بناء وعي حقيقي متقدم تنويري شامل قادر على إحداث تغيير في واقع حياة الناس، والثاني نقد التفكير السلبي والعقلية الانهزامية ومنطق الاستسلام الذي اعتاد عليه الناس وناقشته أعلاه، ولذلك فأنا أعتقد أن أعمال كنفاني بمجموعها ينتظمها هذا الرابط الحيوي الداعي للنهضة الشاملة، وهذا هو ما يؤهلها لتكون مشروعا نهضويا فكريا متغلغلا في حياة الناس ووعيهم، وليس فقط مشروعا أدبيا، روائيا وقصصيا، لأنه ببساطة لا تنتهي القصة عندما ينتهي القارئ من قراءتها، بل إنها تدفعه ليفكر خارج حدود دفتي ذلك الكتاب، وتدفعك بعنف لتفكر في التغيير، وليس فقط إثارة مشاعر الامتعاض من هذا الواقع المشوّه، كما هو واضح جدا في كلّ ما أورثنا إياه غسان كنفاني من روايات وقصص ومسرحيات وأبحاث سياسية وفكرية.
[1] نشرت القصة في المجموعة القصصية "موت سرير رقم 12"، وقد اعتمدت عليها كما نشرت في المجموعة عند موازنة نص القصة الأصلي بنص الكتاب المدرسي.
[2] اعتمدت الطبعة الصادرة عام 2019.
[3] مجموعة موت سرير رقم 12، ص20.
وسوم: العدد 1027