سلوكك يترجم عقيدتك وقِيَمك
كثيراً ما نجد مفارقات، لدى الأفراد ولدى الجماعات والدول، بين ما يُطرح من شعارات وأفكار، وبين الممارسات والسلوك.
وإن القليل من المفارقات قد لا تخلو منه حياة البشر، أما أن تعْظُمَ المفارقات حتى يكون السلوك معارضاً، بل مناقضاً، لما ينطق به اللسان أو تسطّره الأقلام فهذا هو الخلل الكبير. وهو ما يعبّر عنه المثل المصري: "أسمع كلامك يعجبني، وأشوف فعالك أتعجب!".
لقد نعى القرآن الكريم على بعض المؤمنين الذين تقاعسوا عن الجهاد فقال لهم: (يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون؟ كَبُرَ مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون. إنّ الله يحبُّ الذين يقاتلون في سبيله صفّاً كأنهم بُنيان مرصوص). {سورة الصف: 2-4}.
ونعى على بني إسرائيل الذين يزكّون أنفسهم ويأمرون غيرهم بالمعروف ولكنهم لا يستقِيَمون على طريق البرّ فقال: (أتأمرون الناسَ بالبر وتنسَون أنفسَكم وأنتم تتلون الكتاب؟ أفلا تعقلون؟). {سورة البقرة: 44}.
نعم، نجد كثيراً من المسلمين قد انبهروا بقِيَم وافدة، أو ضعفوا أمام شهواتهم، فهم يتصرّفون بما يخالف أوامر الله تعالى وسنّة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم فيُسيئون إلى أنفسهم، ويقدّمون صورة مشوّهة لهذا الدين.
ولنقرأ ما قاله الإمام ابن القيم: "علماء السوء جلسوا على باب الجنة يدعون إليها الناس بأقوالهم، ويدعونهم إلى النار بأفعالهم. فكلما قالت أقوالهم للناس: هلمّوا، قالت أفعالهم: لا تسمعوا منهم، فلو كان ما دعَوا إليه حقاً لكانوا أول المُستجيبين له، فهم في الصورة أدلّاء، وفي الحقيقة قطّاع طُرق".
إن تقوية الإيمان في قلب المؤمن أولاً، واعتزازه بدينه، وثقته أن أحكام الإسلام هي الأقوم والأحكم، وحرصه على طاعة ربّه... تجعله منسجماً مع هذا الدين الذي ينتسب إليه، كما تجعله صورة صادقة عما يدعو إليه.
يقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: "إن الله تعالى فَرَضَ فرائض فلا تُضيّعوها، وحدّ حدوداً فلا تعتدوها، وحرّم أشياء فلا تنتهكوها...". حديث حسن رواه البيهقي والدارقطني.
وهذا بخلاف من يطلب رضا الناس، فقد يؤدي العبادة يرائي بها الناس، أو يرتكب المعصية يجاري بها أعرافاً شاعت في المجتمع، وقد حذّرَنا نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم من هذا فقال: "مَن التمسَ رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن التمسَ رضا الناس بسخط الله، وكَلَهُ الله إلى الناس". حديث صحيح رواه الترمذي.
الذي يطلب رضا الله حقيقةً يصبغ حياته كلها بصبغة الله: (ومَن أحسن من الله صِبغةً، ونحن له عابدون). فتراهُ يتحرّى الاقتداء بالنبي صلّى الله عليه وسلّم بكل تفصيلات حياته، في طعامه وشرابه ولباسه وعلاقاته الاجتماعية، فضلاً عن صلاته وصيامه وعن تحرّي الحلال في تعاملاته المالية وفي جميع تصرّفاته القولية والفعلية... ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. وحين يجد نفسه قد قصّر أو عصى أو انحرف فسرعان ما يستدرك ذلك بالاستغفار والتوبة والعودة إلى صراط الله.
ولنستمع إلى نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم وهو يأمرنا باتباع سنّته، ويحذّرنا من الذين يقولون ما لا يفعلون: روى الإمام مسلم عن ابن مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: "ما من نبيّ بَعَثَه الله في أمّةٍ قبلي إلا كان له من أمّته حواريّون وأصحاب يأخذون بسُنّته ويقتدون بأمره، ثم إنها تَخلُفُ من بعده خُلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومَن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومَن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن. وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل".
وإذاً فإن عقيدتك وقِيَمك هي ما يترجمه سلوكك.
وإن المفارقة بين سلوك كثير من المسلمين وبين أحكام دينهم هي من أهم أسباب تخلّف هذه الأمّة وانكسارها أمام أعدائها. فإن الله تعالى اشترط على المؤمنين أن ينصروه في أنفسهم ومجتمعهم حتى ينصرهم على عدوّهم: (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبّت أقدامكم). {سورة محمّد: 7}.
وإذا كان الإنسان ضعيفاً، والعمر يمرّ مرّ السحاب، فليحرص المؤمن على استثمار كل دقيقة في المبادرة إلى فعل كل خير، والتوبة والاستغفار من كل معصية... حتى يكون عمله مصدّقاً لإيمانه. ولنستمع كذلك إلى ما رواه الإمام مسلم من قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: "بادروا بالأعمال الصالحة، فستكون فِتنٌ كقِطَع الليل المظلم؛ يُصبح الرجل مؤمناً ويُمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بِعَرَضٍ من الدنيا".
وإذا كان حديثنا في كل ما مضى، عن أن سلوك الفرد يترجم عن عقيدته وقِيَمه، فإن سلوك الجماعات والدول يترجم كذلك عن حقيقة ما تؤمن به، فحين نجد دولاً تصكّ أسماعنا وهي تنادي بحقوق الإنسان وحق تقرير المصير والمساواة بين الناس بغض النظر عن أعراقهم ودياناتهم... ثم تجد هذه الدول نفسها تدعم إسرائيل التي اغتصبت أرض المسلمين ثم تنتهك حقوق الفلسطينيين، وتقتحم المسجد الأقصى، ثم إن هذه الدول التي تنادي بالحريات وحقوق الإنسان تنصّب على كثير من بلاد المسلمين طغاةً يقهرون شعوبهم، وقد يقصفونها بصواريخ سكود والبراميل المتفجّرة... وإذا وصل إلى السلطة حاكم انتخبه شعبه طواعيةً تآمروا عليه حتى أسقطوه... إن سلوكهم يترجم عن عقيدتهم وعن قِيَمهم.
وسوم: العدد 1029